الحكامة وتدبير التغيير بالمنظومة التربوية المغربية

الحكامة وتدبير التغيير بالمنظومة التربوية المغربية

مداخلة قدمت في “مناظرة: “السياسات التربوية وسؤال الحكامة” ، الدورة السابعة من المناظرة الوطنية حول منظومة التربية و التكوين بطنجة يومي 7/6 أبريل 2015، نظمها “مركز الدراسات والأبحاث حول منظومة التربية والتكوين”

مناظرة الحكامة

 

مدخل:

   يشمل مصطلح “الحكامة” مفاهيم : الشفافية، والتزويد بالمعلومات، وضمان حقوق وواجبات  المساهمين ومسؤوليات المسيرين .  كما يبنى على أساس: 1- حسن التدبير   2- الإشراك   3-التشارك     4- التوافق 5-الفعالية وجودة الخدمات والتواصل  6-الرؤية الاستراتيجية.[1]             ( ـ إدريس الناصري ، “مفهوم الحكامة”، ضمن –  الموقع التربوي : فضاء التربية والتكوين  –  http://tarbaouiyate.blogspot.com) ولعل هذا ما يجعلنا نقرن، بل نشترط ضرورة التدبير الجيد للتغيير لنتمكن من تحقيق الحكامة المنشودة. فأي تهاون في  تدبير التغيير ينتج عنه ضعف ملحوظ في ترسيخ مبادي الحكامة الرشيدة.

لماذا تدبير التغيير؟:

لعل أهم العوامل المؤدية للاهتمام بتدبير التغيير في جل الأنظمة التربوية في العالم، راجعة للتطورات السريعة التي عرفتها مجتمعاتنا في العقود الأخيرة، في المجالات المعرفية والإعلامية والتكنولوجية، وما رافقها من تحولات اجتماعية وثقافية، من جهة؛ وعدم مواكبتها على مستوى المنظومات التربوية والتعليمية (وخاصة على مستويي التدبير، والمناهج الدراسية في معناها الشمولي)، من جهة ثانية؛ مما جعل فضاءات مؤسساتنا التربوية منفرة لكافة العاملين بها والمستفيدين من خدماتها. وهذا ما دفع جل الأنظمة التربوية في العالم إلى العمل بكل الوسائل على تحديثها وتطويرها  لمواكبة التقدم التكنولوجي المتسارع…

فبتصفحنا للموقع الإليكتروني (www.questia.com) المتخصص بجرد الإصدارات والمنشورات الصادرة في الغرب، بخصوص مادة (تدبير التغيير) (Change Management) يُحصي لنا هذا الموقع 156766مادة منشورة، منها 28939 كتابا، و16215 دورة أكاديمية، 37591 مجلة، و74016 جريدة، وخمس موسوعات في موضوع تدبير التغيير؛ مما يدل على الأهمية القصوى التي يحتلها عالميا، وسط هذه التحولات الهامة التي يعرفها العالم في مقابل تراجع مكانة وجاذبية المؤسسات التربوية التي لازال يطغى عليها التقليد والتلقين… وهذا ما جعل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية “OCDE”  تقر بأن ((المؤسسات التربوية تشتغل في وسط مختلف جدا عن الوسط الذي وُجد منذ عقود. إنها تواجه مشاكل اجتماعية أكثر خطورة، وننتظر منها أن تلعب أكبر دور على المستوى الاجتماعي، وأن تضمن تربية على المواطنة، وتربية صحية ومتنوعة ثقافيا، كما عليها أن تُعين الناشئة على تنمية وتطوير كفايات ضرورية للبقاء والاستمرار في عالم سريع التطور…))

مقاومة التغيير:

وأي تغيير تُقدم عليه أي منظومة، فيما يسمى بالتغيير التنظيمي لمواكبة التطورات؛ لا بد وأن يثير أشكالا من المقاومة والرفض، تختلف درجة حدتها تبعا للمتغيرات الآتية:

  • مدى عمقها أو سطحيتها، إذ تشتدّ المقاومة حينما يكون التغيير جذريا، وتخفّ كلما كان شكليا.

  • مدى استعداد الفئة المستهدفة بالتغيير لتقبله وإنجازه.

  • القدرة على تدبير علمي للتغيير المستهدف، يُواكب عملية التغيير، من لحظة انطلاقها كمشروع قابل للإنجاز، إلى حين قطف ثماره وتقويم نتائجه، مرورا بمراحل اختباره وتجريبه وتنفيذه.

لذا يتطلب التدبير الناجح لأي تغيير:

  • إشراك المستهدفين بالتغيير في عملية التغيير، لتسهيل قبوله من طرفهم؛ فكلما كانت قاعدة المشاركة أكثر اتساعا، كلما كانت المقاومة أقل تأثيرا.

  • الأخذ بعين الاعتبار لتمثلات المستهدفين بالتغيير المقترح، وأحكامهم المسبقة حوله، والمستمدة من “ثقافتهم التنظيمية” السابقة، والتي تُغذى بسلبيات بعض التجارب السابقة في مجال الإصلاح والتغيير، مما يزكي لديهم الرفض المسبق والجاهز للتغيير المستهدف دون الاطلاع على محتوياته ومناقشة جدواه.

  • التأكيد على أهمية الإحساس والشعور الصادر عن أعضاء المنظمة بالحاجة إلى التغيير، وبضرورته، كشرط أساسي لنجاح هذا التغيير.

ولعل تحقق هذه الشروط، رهين بوجود قيادة للتدبير تواكب سيرورة مشروع التغيير؛ كما تُوازن بين العلاقات الإنسانية المحفزة لإنجاح المشروع من جهة، والقيام بالمهام والواجبات المنوطة بها، من جهة أخرى؛ وتُحفز القائمين بالتغيير، ماديا ومعنويا بما يتناسب مع التقدم الذي يُظهرونه في مجال تنفيذ التغيير ميدانيا؛ مع تفادي كل أشكال التعامل البيروقراطي المبني على الأمر والنهي، والاتصال العمودي وتصيّد الأخطاء.

هذا، وتجدر الإشارة بخصوص مقاومة التغيير، أنها عموما، قد تُعزى للشعور بعدم الأمن والاستقرار في حالة حدوث التغيير، أو فقدان بعض الامتيازات؛ كما أن كل تغيير يثير مقاومة شبه تلقائية لأن مسايرته تتطلب تكييف أو تغيير سلوكات تم اكتسابها بصعوبة، كما ترسخت خلال سنين طويلة مضت. ولعل أهم ما يجعل هذه المقاومة أكثر ضراوة هو التصور السلبي الذي يحمله الطرف الذي يُطلب منه تنفيذ التغيير، تجاه الطرف الذي يقترحه؛ وغير خفيّ لدى كثير من العاملين بالمؤسسات التعليمية – لأسباب عديدة- تشكيكهم في جل ما يأتيهم عن طريق الإدارة، أو اعتبارها توجيهات أو تعليمات للاستهلاك الإداري لا للممارسة والتجريب الميداني… ؛ وفي مواقف كثيرة يكون سبب مقاومة التغيير راجعا للجهل بمضمونه بسبب تصديق شائعات حوله ؛ وهو مؤشر واضح على ضعف التواصل بين الأجهزة الإدارية وباقي الأطراف المعنية بتنفيذ التغييرات المنشودة.

سبل إنجاح التغيير:

ونخلص مما سبق بأن إنجاح التغيير المنشود، يتطلب:

  • الاقتناع أولا بأهميته على المستويين: الشخصي والمؤسساتي.

  • الاقتناع بالإمكانية الدائمة للتعلم (من المهد إلى اللحد).

  • الاقتناع بأن أي مجهود إضافي مرافق للتغيير يُساهم في تحسين جودة العمل كما يُطور الكفايات المهنية.

  • التكوين الجيد لكافة الأطراف الفاعلة والمنجزة للتغييرات المنشودة، بدءا بالقيادات الإدارية، وانتهاء بكافة الفاعلين التربويين…

مفارقات التدبير بمنظومتنا التربوية المغربية:

 وبالعودة إلى واقع التدبير الإداري للتغيير بمنظومتنا التربوية، إلى أي حد يلتزم “القادة” وأصحاب القرار بها، بقواعد تدبير التغيير الناجح المشار إليها أعلاه، في تدبير كافة شؤونها وإدارتهم للإصلاحات المتوالية بها؟

يمكننا تلمس ملامح الجواب على هذا السؤال على مستويين، المستوى الماكرو/إداري، أو التدبير الشمولي و”المركزي” لمنظومة التربية والتكوين، والمستوى الميكرو/إداري، أو التدبير “القاعدي” ابتداء من المؤسسات التعليمية، وانتهاء بالتدبير المحلي؛ مرورا بالتدبير الجهوي.

  • على المستوى الأول، الماكرو/إداري، وانطلاقا من سيرورة تدبير المنظومة التربوية المغربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة يمكننا إبداء الملاحظات الآتية:

  • رغم وعي المنظرين للإصلاحات المتوالية بأهمية التدبير الجيد للتغيير، كما ورد في ديباجة ” البرنامج الاستعجالي ( 2009- 2012 ) ” ؛ إلا أن الكثير من القرارات الهامة المتخذة وكذا بعض التدابير الإجرائية تدل على وجود تعثر واضح في التدبير الجيد للتغيير، ولتوضيح ذلك نسوق ثلاثة أمثلة ملموسة لذلك:

1ـ تنفيذا لدعوة “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” لتخصيص ما يعادل ثلاثين بالمئة من المناهج الدراسية بالتعليم المدرسي، للمناهج الجهوية والمحلية؛ قامت وزارة التربية الوطنية، عبر مديرية المناهج، بفتح ورش كبير لإعداد هذه المناهج في منتصف العشرية الأولى للإصلاح ( 2004 ـ 2006) بتعاون مع منظمة اليونيسيف وبتأطير من أساتذة من التعليم العالي متخصصين في “علوم التربية”… وبعد إنشاء فرق جهوية ومحلية، وتكوينهم في بناء المنهاج الجهوي والمحلي، تم بناء المشروع وفق مراحل عديدة، و شُرع في تجريبه في مدارس ابتدائية في كل جهات الوطن … بعد بذل كل هذه الجهود، وصرف مبالغ مالية كبيرة جدا، تم تجميده، ووضعه في رفوف الإدارة المركزية لوزارة التربية الوطنية دون تقديم أي تعليل لذلك للفرق التي انخرطت بكل جدية في بنائه، وقد كان لي شرف المساهمة فيه، كما نلت نصيبي من الإحباط بسبب نهايته التي لم نكن نتوقعها.

2ـ مثال آخر لهذا التعثر في التدبير الجيد للتغيير، تجلى في الكيفية التي تم بها إلغاء بيداغوجيا الإدماج، من طرف وزير سابق للتربية الوطنية، قبل تقويمها، وقبل البحث عن بديل لها، مما أربك عمل كل الفاعلين التربويين بالمنظومة التربوية، من مدرسين، ومفتشين، وفرق منكبة على تأليف كتب مدرسية جديدة وفق تلك البيداغوجيا… مما نتج عنه الكثير من الهدر في الإمكانيات التي رصدت لتكوين كافة الأطر التربوية لسنين عديدة في هذه البيداغوجيا، والمبالغ التي رصدت لفرق تأليف الكتب المدرسية وفق المنهاج الجديد، علاوة على تكاليف اشتغال فرق التأطير التي ترأسها الخبير في بناء المناهج كزافيي روجرز …

3ـ ومن الأمثلة المُثْبتة لهذا التعثر أيضا شروع مسؤولي الوزارة في إلغاء كل التدابير الواردة في ” البرنامج الاستعجالي ( 2009- 2012  ) “،  قبل إجراء تقويم علمي له، والبحث عن مكامن ضعفه، واختلالاته… مما حذا بصاحب الجلالة للتدخل للتأكيد على ضرورة الاستمرارية في المخططات الإصلاحية للمنظومة التربوية والنأي بها عن كل الحسابات السياسوية الضيقة، ولفت الانتباه إلى عدم استثمار وترصيد الحكومة الحالية – في نسختها الأولى- للتراكمات الإيجابية في قطاع التربية والتكوين، “باعتباره ورشا مصيريا، يمتد لعدة عقود. ذلك أنه من غير المعقول أن تأتي أي حكومة جديدة بمخطط جديد، خلال كل خمس سنوات، متجاهلة البرامج السابقة علما أنها لن تستطيع تنفيذ مخططها بأكمله، نظرا لقصر مدة انتدابها”[2] (من خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس، في ذكرى ثورة الملك والشعب في 20 غشت لسنة 2013.).

ولعل أهم ما يمكننا استنتاجه من خلال الأمثلة أعلاه، هو أن ضعف التدبير الماكرو/إداري للتغيير بمنظومتنا التربوية يتجلى في:

  • ضعف ملحوظ في المأسسة، وعدم استمرارية المشاريع، نظرا لارتباطها بأشخاص ورؤى ضيقة…

  • ضعف كبير ـ إن لم نقل غيابا ـ في اتباع أساليب التقويم العلمية للمشاريع الإصلاحية المنجزة، قبل اتخاذ أي قرار بتعديلها أو إلغائها… إذ نلاحظ عكس ذلك في تدبير بعض المشاريع الكبرى، حيث يصدر قرار الإلغاء، ويعقبه تقويم لتأكيد صحة القرار…

  • ضعف التدبير التشاركي الحقيقي، وضعف العمل بروح الفريق، على كافة المستويات، مما يرجح كفة تنفيذ المرؤوسين لأوامر وتوجيهات رئيسهم على كافة مستويات التدبير المركزية والجهوية والمحلية…

  • ضعف كبير – إن لم نقل غيابا – لرسملة الجهود والخبرات السابقة، والاستفادة منها، والبناء عليها… مما يجعل كل “قائد” أو رئيس يفضل، أو يضطر، للبداية من الصفر، أو يبذل مجهودات في كشف أخطاء سابقه، بدل البناء على منجزاته، وتقويم هفواته بموضوعية …

 

  • على المستوى الميكرو/إداري، أو التدبير “القاعدي” ابتداء من المؤسسات التعليمية، وانتهاء بالتدبير المحلي؛ مرورا بالتدبير الجهوي؛ يتبين أن ضعف التخطيط الاستراتيجي على المستوى الأول، ينعكس سلبا على هذا المستوى، مما ينتج عنه:

                ـ أن النسبة العظمى من الزمن الإداري والتربوي بمنظومتنا التربوية تُستلَكُ في عمليات التسيير المكتبي اليومي والتدابير التقنية، بحجة ضغط الضعف الملحوظ في الإمكانيات اللوجيستيكية، وقلة الموارد البشرية، الإدارية والتربوية، واكتظاظ الأقسام بالتلاميذ، وتدني مستوى التحصيل الدراسي وغيرها.

               ـ في مقابل العوامل السابقة يقل الاهتمام – بل ينعدم أحيانا – بالبعد النظري والبيداغوجي والفلسفي لكل المقاربات الحديثة المتداولة بمنظومتنا التربوية، على كافة المستويات التدبيرية والبيداغوجية والثقافية؛ مما يُفرغ جل الإصلاحات المتوالية من أهم محتوياتها، فتترسخ الممارسات التقليدية باستعمال “شعارات” الإصلاح دون استيعاب جوهره.

خلاصة:

نستنتج مما سبق أن الحكامة الجيدة للمنظومة التربوية، تقتضي تدبيرا للتغيير يزاوج بين التدابير والإجراءات التقنية من جهة، والتعبئة الاجتماعية القوية لكل الفاعلين التربويين للاقتناع بالتدابير الإصلاحية، قبل الشروع في تنفيذها وفق مقاربة تشاركية، تشتغل بروح الفريق، والمأسسة، والربط الوثيق بين مبدأي تحمل المسؤولية والمحاسبة لدى كل الفاعلين الإداريين والتربويين، كما نربي تلامذتنا على مبدأي تحمل المسؤولية، والاستقلالية التدريجية في تعلماتهم…

د.عزيز بوستا ، أستاذ باحث في علوم التربية  

بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة

مداخلة قدمت في “الدورة السابعة للمناظرة الوطنية حول منظومة التربية والتكوين” المنظمة من طرف مركز الدراسات و الأبحاث في منظومة التربية و التكوين، بشراكة مع المجلس الحضري لمدينة طنجة، ومركز الدراسات و الأبحاث حول الحكامة و المحاسبة ومكافحة الفساد، ودعم من مجلس مدينة طنجة،  بالقصر البلدي ؛ في موضوع: “السياسات التربوية وسؤال الحكامة؟” وذلك بمدينة طنجة يومي  06 و 07 أبريل 2014.

 

hakama

عزيز بوستا

أستـــاذ بــاحث بالمركز الجــهوي لمــهن التــربية والتــكوين بطــــنجة حـــاصل علــى: دكــــتوراه فـــي عـــلوم الـــتربية، ودبـــلوم الــــــدراسات العــــليا فـــي الفلســـفة. شارك في أنشطة متنوعة (علمية وثقافية عامة) في إطار تظاهرات وندوات وموائد مستديرة، من تنظيم جمعيات ومنظمات وطنية ودولية، ولقاءات إذاعية وإعلامية مختلفة... ساهم فــي التــكوين الأســاس والمســـتمر للمـــدرسين وأطـــر الإدارة التــربوية، بكــافة أســلاك التعــليم المــدرسي، فــي مواضيع ذات علاقة بالتربية والتكوين. له مقالات متعددة في الفلسفة وعلوم التربية، بمجلات وجرائد ومواقع إلكترونية مغربية وعربية. (يعاد نشر بعضها بهذا الموقع).

اخر المقالات
التعليقات ( 4 )
  1. عادل حمي
    2016-10-10 at 00:59
    رد

    موضوع جيد تم نقله إلى موقع تواصل أطر الإدارة التربوية بطنجة

    • admin
      2016-10-16 at 21:18
      رد

      شكرا السي عادل على التواصل، تحياتي. عزيز بوستا

  2. رشيد
    2016-10-14 at 09:44
    رد

    السلام عليكم
    تحية لاستاذنا على المجهود الجبار الذي تحمله ويتحمله في سبيل نشر الوعي التربوي والتدبيري على المستوى التعليمي وعلى المستوى الثقافي ككل , فمزيدا من العطاء ودمت متألقا

    • admin
      2016-10-16 at 21:17
      رد

      شكرا السي رشيد ، مع أطيب التحيات. عزيز بوستا

‎اضف رد
الرمز الامني اضغط علي الصورة لتحديث الرمز الامني .