عن قيمة المدرس ببلادنا !
عن قيمة المدرس ببلادنا !
مقال نُشر بمجلة “التواصل التربوي” العدد الرابع يناير 2002
وهي مجلة كانت تصدر عن مركز تكوين المعلمين والمعلمات بطنجة / المغرب
ذ. عزيز بوستا (شعبة علوم التربية)
يُلاحِظ أيُّ مُتَتَبِّع لقضايا التعليم ببلادنا، تنامي “ظاهرة” الانْتِقاص من قيمة المُدَرِّس والمدرسة، ليس فقط في أوساط عامة الناس، بل حتى لدى كثير من أُطُر التعليم أنفسهم. ومن أغرب المفارقات التي تعيشها بلادنا في العقدين الأخيرين؛ هي أنه بقدر ما تَنْحَصِر فُرص الولوج للوظيفة العمومية، بقدر ما يتزايد هذا الشعور بالنقص تُجاهها، بحيث أصبحت تُمثِّل الحدّ الأدنى من المطالب التي يتوق لها طلبتُنا بالنظر إلى طموحاتهم، كما تُمثِّل في نفس الوقت الحدّ الأعلى بالنظر إلى الإمكانيات الشحيحة للواقع. فلماذا تراجعت قيمة المُدرِّس في مجتمعنا؟
أعتقد أن التراجع الملحوظ لقيمة المُدرِّس (سواء كان معلما أو أستاذا)، مرتبط بتراجع المستوى المعيشي للطبقة الوسطى ببلادنا، وما رافقه من تراجع الاهتمام بكل ما هو ثقافي وعلمي، وذلك للأسباب التالي:
1-تكاثر أعداد العاطلين من الطلبة الحاملين للشواهد العليا، مما جعل عموم الناس يتساءلون عن مدى جدوى تعليم أبنائهم إنْ كان مآلهم في النهاية هو البطالة . ممّا جعل الكثيرين منهم يتعاملون مع المؤسسات التعليمية –وخاصة في المستوى الابتدائي- كمُجَرّد مؤسسات لِمحْوِ الأمية الأبجدية…
2-بُرُوز فئة من الناس إلى واجهة المجتمع، راكمتْ ثروات طائلة في أزمنة قياسية وبِطرُق غير مشروعة، كالاتجار في الممنوعات أو استغلال النفوذ، دون أن تمتلك الحدّ الأدنى من التكوين الثقافي والعلمي، مِمَّا جعلها “قُدْوَة” سيئة لفئة عريضة من أجيالنا الصاعدة، التي أصبحت تحتقِر –شعوريا أو لاشعوريا- أيّ عمل ثقافي هادِف، كما تزْدري كلّ الوظائف العمومية، وفي مقدمتها وظيفة المُدرِّس، إلى درجة أصبح معها بعض المُدَرِّسين –المُنْساقين وراء هذه الموجة- يخْجَلون من إعلان انتمائهم لهذه المهنة الشريفة التي –في نظرهم- لا تُغني ولا تُسمِن من جوع.
3-تَحوُّلُ مجتمعنا –بفعل تأثير اقتصاد السوق وسيادة النموذج الاستهلاكي الغربي عبر الانتشار السريع لأحدث تقنيات التواصل والإعلام- إلى مجتمع استهلاكي، يُفضِّل فيه الفردُ شِراء أتْفه منتوج استهلاكي على اقتناء مجلة ثقافية أو كتاب، إنْ توفرت له إمكانية ذلك.
4-تدهوُر أحوال أغلب مؤسساتنا التعليمية في الوسطين الحضري والقروي من حيث التجهيز والصيانة، وقلّة أو انعدام بعض المرافق الحيوية للمدرِّس، كالسكن اللائق والطرق المعبَّدة والمواصلات …الخ. ممّا يجعل المُدرِّس غير راضٍ عن وضعه المعيشي والمهني.
وإنّ المراجعة الشاملة التي تخضع لها منظومتنا التعليمية في هذه السنوات الأخيرة، تدعونا أكثر من أيّ وقت مضى إلى الانخراط في حمأة هذه العملية الإصلاحية بِروح وطنية، وبعيداً عن كلّ الحساسيات الضيِّقة من أجل ردِّ الاعتبار لرجل التعليم (وامرأة التعليم) وحفزه على بذل كل ما في وُسْعه من أجل نهضة هذا القطاع الذي يمثِّل ركيزة أية تنمية حقيقية في بلادنا.
أعتقد أنّ الصعوبات الجمّة التي يعاني منها المُدرِّس –والتي أشرتُ إلى بعضِها-، لا يَجِبُ أنْ تُشعِره بأيِّ عُقدة نقص تُجاه مهنته، وذلك لأن قيمة الشخص المعنوية لا تُعادِلُ ممتلكاته المادية أو قيمة راتِبِه الشهري –عكس ما تُرَوِّج لذلك بعض الأمثال الشعبية الرديئة-. فتعاليمنا الدينية السمحاء تحُثُّنا على الإِعْلاء من قيمة العلم والتَّعلُّم والتعليم، كما تعتبرُ العمل عبادة، وتدعونا إلى إتقانه وعدم التهاون في أدائه…
وإنّ الفوائد النفسية والعملية التي يجنيها المدرِّس من التَّزوُّد بروح معنويّة عالية
والاقتناع بأهمية وقيمة مهنته لا تُقدَّرُ بثمن؛ بحيث يدفعه هذا الإحساس إلى أن يَجِدَ ذاتهُ في العمل التربوي/التعليمي ويجتهد فيه، بل ويسْتَمْتِعَ بِه، ممّا يُمكِّنُه من امتلاك القدْرة على مواجهة العديد من الصعوبات التي تعترضه… أمّا الانطلاق –عكس ذلك- في العمل بِروح معنويّة منكسِرة، ومن احتقار المهنة، فإِنه غالبا ما يُؤدِّي إلى احتقارٍ للذّات ومُزاولة العمل بنوع من الإِكْراه والاشمئزاز وانعدام الرّغبة مما يجعلُ المُدرِّس غير قادر على مُواجهة أبسط الصعوبات التي تعترض طريقه…
وإنّ الدعوة إلى التحلّي بروح معنويّة عالية في ممارسة مهنة التعليم، لا تعني تكريس الأمْر الواقع والقول بأنه ليس في الإمكان أحسن مما هو كائن في مجالنا التعليمي! بل بالعكس من ذلك، علينا أن نقوم بمهامِّنا أحسن قيام، ونحن مرْفوعي الرأْس، كما علينا أن نُساهِم ونُطالب بتحسين أوضاعنا المهنية في نفس الآن. فالمطالبة بالحُقوق لا يَجب أن تُنسينا أهمية القيام بالواجبات، خاصّة وأنّ المُتَضرِّرين الأوائل من إخلالنا بواجباتنا هم أطفال أبرياء لا يَد لهم فيما نُعانيه من مشاكل مادية ومهنية. ولعلَّ هذا الخلط بين هذين المستويين (الواجبات والحقوق) قد ساهم بِقسط لايستهان به في تدنِّي مستوى الأداء التربوي للمدرِّس، حيث سادت لديه مقولة:< <الاشتغال بِقدْرِ المقابل النقدي>>، مِمَّا برّر لكثيرين سُلوك التهاوُن والغِشّ في العمل. وإن ما يؤكدُ تَهافتَ هذه المبرِّرات التي تقيسُ ظاهرة “التهاون والغشّ” في العمل بالمقياس المادّي الصّرْف، هو تفشّي نفس الظاهِرة وبِشكل أكثر استفحالا وخطورة لدى بعض المهنيين الذين يتقاضون رواتب وتعويضات خيالية، مثل كثير من الأطباء المختصين ذوي العيادات والمستشفيات الخاصة… مما يدلّ على أن الضمير المهني الحيّ لا يجب أن يُقاس بالمال، كما أن الوازع الأخلاقي والتنشئة الاجتماعية المبنية على زرع روح المُواطنة في ناشِئتنا ونشر الوعي بواجبات الإنسان بالموازاة مع الوعي بحقوق الإنسان ؛ هذه كلها أمور لابدّ من التركيز عليها للنهوض بمستوى كُلِّ مرافقنا العمومية وفي مقدّمتها المُؤسسة التعليمية.
للاطلاع على المقالة في مصدر آخر، انقر على الرابط أسفله:
http://www.annabaa.org/nbanews/65/373.htm
حقـًا أخي تلك عوامل أساسية ساهمت في النظرة الدونية لا لرجل/امرأة التعليم فحسب، وإنما لعملية التعليم / التعلم ككل. ويمكن إبراز ما جد مؤخرًا من إفراغ المؤسسات من عدد غفير من الأطر بسبب عملية المغادرة الطوعية؛ فلكأنما شعار الوزارة المعنية حتى لا أقول الحكومة ككل، هو: تعويض منطق “1 1=2″ بمنطق “8=2″. ومعنى هذا الكلام الذي يبدو كطلاسم السحر، حفظنا الله وحفظك وحفظ سائر المسلمين منه، هو أن المؤسسة التي كانت تضم ثمانية أطر إدارية، مثلا، غادر منهم، سواء بالمغادرة الطوعية أو بغيرها، ستة وبقي اثنان، فإن شعار المسؤولين الذين عالجوا به الوضع هو، وألخصه في كلمة واحدة، والخطاب موجه إلى الإطارين الباقيين صامدين في موقعيهما: “تصرفا”. وهذا الكلام فيه تفصيل، وملخصه، حسب منطق المسؤولين المدمر والمدهور لما تبقى للتعليم من قيمة: ليعمل الإثنان ما كان يعمله الثمانية؛ ولا يسأل أي منهما عن تحفيز ولا تشجيع مادي ، فهذا لا أثر له.
ثم يلتفت السادة المسؤولون في أعلى الهرم، قائلين لبعضهم البعض: نحن في زمن الغفلة، وقد كنا مغبونين عقودًا من السنين، فنحن الآن نحوز كل شيء ولا ندع للأصاغر حتى الفتات. وهو منطق فاسد بطبعه، قبل أن يكون فاسدًا بالبرهان.
ولنضف إلى هذا سياسة “دعه ينجح، دعه يخلي المقعد للآتي بعده، ولينجح حتى بدون أقرب نقطة إلى المعدل، بل لتبتعد نقطة معدله عن النقطة المعهودة الموجبة في العرف العام للنجاح، لتبتعد ما تشاء، المهم أن الجميع أو ما يقرب من الجميع ينجح، ولا تتركوا أحدًا ، ما أمكن، يخرج إلى الشارع، وضخموا أعداد زبناء التعليم بمختلف أسلاكه، حتى نحافظ على الاستفادة الدائمة من المساعدات الخارجية، وكل دولة درّسوا لها لغتها حتى تعطينا أموالها ومنحها، نأخذ الكل نحن، واتركوا أولئك يقتنعون بخطة (8=2)” إلخ إلخ، وكل هذا يسمى بالخطة المدرسية
وسياسة الخطة المدرسية وحدها ببلادنا تدعو إلى أكثر من وقفة
هذا فضلا عن الأسباب المؤدية إلى تفاحش الساعات الإضافية (السوايع)
ودعني ساكتـًا أحسن
تحيات
*تصحيح: 1 1=2 بدل 1 1=2
**تصحيح: لا يظهر رمز “زائد” بين العددين 1 و 1.
واضح أن المقصود هو: 1 زائد 1 = 2
ما أشرت إليه أخي العزيز إضافات هامة تسلط الضوء على جوانب هامة من الإشكالات التي تعرفها منظومتنا التربوية، وأنا بدوري لا أختلف معك حولها، إنما أردت التركيز على ظاهرة مستشرية في جسمنا التعليمي/التربوي وهي ضعف إن لم أقل انعدام الإحساس بالمسؤولية، وتعليق كل الأخطاء على عوامل خارجية (مسؤولين، نظام، سياسة، ظروف مادية…). وإهمال الواجبات إلى درجة أن أغلبنا لا يبذل سوى جزء يسير من الطاقة التي يمكنه توظيفها، ليدخر الباقي لأغراضه الشخصية المحضة، وهذا ما لا نجده في المؤسسات الخاصة التي لا ينال فيها الأساتذة الحد الأدنى من حقوقهم لكنهم يبذلون مجهودات أكبر بفعل المراقبة الصارمة هناك، أليست هذه مفارقة؟
قد ينظر إلى الأمر، من زاوية أخرى، على أنه جد طبيعي، إذا ما أخذ بعين الاعتبار أن التعليم الخصوصي يستطيع التخلص من المدرس في أي لحظة، بينما المدرس في التعليم العمومي، يعيش تحت حماية دائمة إن هو لم يتغيب تغيبًا فاحشـًا ، أو يصدر منه فعل مشين يقيم القيامة على رأسه فلا تجد الوزارة المعنية مناصًا من إزاحته ليتردى في هذا المصير أو ذاك.
ومهما يكن، فإنني أتفق معك تمامًا على ضرورة القيام بالواجب كاملا، مهما كانت الظروف والأحوال
وعلى كل حال، فذو الضمير الحي لا يسعه إلا هذا، أي أن يقوم دومًا بواجبه على أحسن وجه ممكن
إنما كنا ننتهز الفرصة السانحة لنلفت نظر القوم إلى ما فعلوه، وهذه هي المفارقة حقـًا، بضرب بعض الأمثلة
والله المنقذ من وحل الطريق
تحيات
اغلى تحية استاذي الكريم
كرا على طرح الموضوع
فقط ملاحظة بسيطة وهي الاشارة الى مساهمة بعض اشباه المنتسبين لرجال ونساء التعليم حتى في الاساءة لمهنتهم ووضعيتهم الاعتبارية ثم دور الدولة المخزنية ومنذ الاستقالا في ضرب قطاع التنمية قطاع التعليم حتى يفقد رجل التعليم كل مصداقيته ىورنزيته لان رجل التعليم كان ضمير الشعب