حوار مع الدكتور محمد ألوزاد- الجزء الثاني

حوار مع الدكتور محمد ألوزاد

حول قضايا متعلقة بالفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الثاني

 

وهو آخر حوار أجري مع المرحوم د. محمد ألوزاد قبل وفاته  بأشهر، ونُشر ب<مجلة الصورة- مجلة النقد الأدبي والبحث الفلسفي> السنة الرابعة ، العدد الرابع، شتاء 2002، دار النشر المغربية بالدار البيضاء        

أجرى الحوار: عزيز بوستا / محمد الشلي

 

وأعيد نشره  ب: “مدارات فلسفية” مجلة الجمعية الفلسفية المغربية

العدد 14 صيف 2006 دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط

 

p د. ألوزاد: لتكن بدايتنا من مسألة التوحُّد، فالسؤال يكاد يدور حول تصور ابن باجة لمسألة التوحُّد. إن ما كتبته في زمن ما حول مشكل “الصعود” و”الهبوط” كان، في الحقيقة، جزءا من بحث يعود إلى أوائل التسعينات. وبدون شك، فإن الأمر أصبح يستحق اليوم أكثر من ذلك. ربما يحتاج الأمر إلى توضيح فكرة التوحُّد عند ابن باجة لنتبيَّن أنها مفهوم مستقل، أعني أنه يملك حمولة فلسفية متميزة لديه. يمكن القول إن التوحد جاء نتيجة لسؤال قديم كانت الإجابات عنه مختلفة في زمن ابن باجة. إنه سؤال الفلاسفة، ولكنه أيضا سؤال الصوفية، وقد يكون سؤال بعض المفكرين الذين انعزلوا أو اختلفوا مع محيطهم في تلك الفترة. السؤال هو: كيف يمكن للمرء أن يكون فيلسوفا، وأن يعيش في الوقت نفسه ضمن المدينة الجاهلة؟ وحينما أقول “الجاهلة”، فهذه الكلمة لها رنينُها الخاص عند ابن باجة، إذ تعني المدينة التي ينعدم فيها العلم النظري، المدينة التي لا تَعرف الفكر، أو التي تُعانِد أهل الفكر، أو تستبدل آراء أهل الحكمة بآراء أهل  الغَلَبَة وبالآراء الباطلة، والتي تُغَلِّب الاتجاه الجسماني على العقلي في العلاقات الاجتماعية. هذا هو السؤال الباجي، وهو سؤال يعكس الوضع السائد آنذاك، كما أنه يمثل سؤال المحيط الذي عاشه كل الحكماء والمفكرين الذين فضلوا العزلة، أو الانفراد، أو الاختلاف مع محيطهم. والأسماء يَعرفها الجميع في تلك الفترة مِنْ حياة المدنية الإسلامية. إنها محنة الخاصة التي ربما تشكل دراما تستحق يوما ما أن تُعْرَض بطرق فنية أو أدبية.

إن جواب ابن باجة كان هو جواب الفيلسوف، وليس جواب الأديب. ولكن ليس جواب الفارابي، ولا جواب ابن طفيل صاحب “حي بن يقظان“، لأن جواب الفارابي كان جوابا يَنبني على أساس التسليم بإمكانية تحقق مدينة فاضلة بناءً على مقولة سياسية وُجدت في مجتمعه، هي المقولة الشيعية التي كانت تَرى أنّ دعوة الإمام يمكنها أن تغيِّر النظام الاجتماعي وأن تكون سببا في قيام تلك المدينة الفاضلة. الفرق فقط أن الإمام الشيعي يحقق التعاليم الشيعية، بينما الإمام الفلسفي يحقق المُثُل الفلسفية. هناك إذن عند الفارابي أمل في أن يَظهر هذا الإمام/الفيلسوف، تماما كما أن هناك أملا عند الشيعة في أن يَظهر الإمام الشيعي ليملأ الدنيا عدلا بعد أن مُلئت جُورا. وهذا نوعٌ من “المهدوية” في تفكير أبي نصر الفارابي.

أما بالنسبة لابن طفيل، فإنه يتبنى القطيعة؛ يرى أنه لا مفر للحكيم من أن يعتزل، من أن يهاجر إلى الجزيرة، والجزيرة تعني أنْ يَقطع صلته بالمجتمع. إن ابن طفيل يستلهم النموذج الصوفي. لم يكن ذلك بغريب، فقط إن صاحب “حي بن يقظان” قدّم الأمر تقديما فلسفيا، فجَعَل أسباب العزلة أسبابا فلسفية، باعتبارها اتجاها نحو تطوير نظرة فلسفية للعالم.

أما ابن باجة، فسيقدِّم تصورا آخر للتوحُّد، لا هو تصور ابن طفيل، ولا تصور الفارابي. تصور طريف مفاده أنه يمكن للحكيم أن يعيش في المدينة الجاهلة، وأن يكون، مع ذلك، حكيما. معنى ذلك أن الإنسان يعيش حياة “مزدوجة” إذا جاز التعبير. وإذا استعملنا اللغة الحديثة، سنقول إن الحكيم يَكون إلى حدٍّ ما “مغتربا“. وابن باجة نفسُه يَستعمِل كلمة “الغربة“، أعني أن الإنسان يعيش، من جهةٍ، وطنا بجسمه، ويعيش، من جهة أخرى، وطنا آخر بفكره. ولا يمكن أن يمتلك المرء أفقا فكريا وعقليا منفصلا عما هو رائج في محيطه. لاشك أن التوحد عند ابن باجة له شروطه، ويَفترض طريقة لبلوغ شكل من التعايش بين واقعين متناقضين. إنه يَفترض موقفا معيّنا من الجسم ورغباته، وَيفترض موقفا من الخيال والتخيُّل، ومحاسبة النفس، ويَفترض موقفا من العِلم. إن الإنسان عليه أن يتبع نظاما تعليميا أو هيرارشية تعليمية معيَّنة ليَبلغ بالعِلم المقامَ الذي يَسمح له بأن ينتقل إلى استشراف عالَم آخر، هو عالَم أو مرتبة السعداء.

هنا يبدو أن مسألة التوحُّد تقدِّم لنا شيئا آخر، تصورا آخر للفلسفة لو رأيناه منعزلا لَمَا لمسنا فيه الشيء الكثير، أما لو رأيناه في ضوء التحول الفلسفي العام فسنلفيه بمثابة خطوة جريئة في اتجاهٍ حاسم ستسير عليه الفلسفة لاحقا، هو اتجاه تحرير الأفكار. ففلسفة الأفكار أو فلسفة التصورات التي ستهيمن منذ ديكارت، وهو الاتجاه الذي ستستقر عليه الفلسفة تدريجيا، وهو جَعْل الفيلسوف يعاني بصفة عامة من مشكل التواصل بينه وبين محيطه. فمن المعروف أنه منذ القرن التاسع عشر، سيستقر الرأي تدريجيا على وجود صعوبات في التواصل بين العالَم النظري للفيلسوف، وبين محيطه. هذه الخطوة الجريئة في التفكير الفلسفي الباجي لعلها تعتبَر من الخطوات التي ما فتئت تبهر القراء إلى اليوم في نصوصه. وأذكر هنا المستشرق الإسباني بالاثيوس Palacios الذي اندهش وهو يقرأ رسالة “تدبير المتوحد“، وهي من النصوص الجميلة جدا التي تنطوي على هذه الإيحاءات، دون أن ننفي أفقها الأرسطي. فعبقرية ابن باجة جَعَلت الأفق الأرسطي يَسمحُ بهذا القدر من التأويل.

أما بخصوص القول بأن فلسفة ابن باجة لاسياسية، أذكر أن أحد الزملاء كان قد قدَّم عرضا أشار فيه إلى هذه المسألة، وحَمَل على ابن باجة من هذه الزاوية، بحيث اعتبَرَه عدميا، وهو تكرار لِما ورد في مقالةٍ صَدَرَتْ بهذا الشأن ضمن أحد أعداد مجلة كلية الآداب بفاس. علينا أن نحتاط من مثل هذه الأحكام ما لم تستند إلى شيء من التعليل والتقويم القوي. فلو رجعنا إلى ما قاله ابن باجة في عدد من نصوصه، سنجد أنه من الصعب الحديث عن فيلسوف مضادّ  للتنظيم السياسي.

إن ابن باجة سيشير إلى نص “الأخلاق إلى نيقوماخوس” لأرسطو، وسيقول إنه لا يمكن أن تكتمل السعادة؛ سعادة السعداء، ما لم تتحقق المدينة الفاضلة. هذه إشارة واردة لديه في “شرحه للكون والفساد” بوضوح جلي. كيف ستتحقق المدينة الفاضلة؟ لعله لا يشاطر الفارابي في حُلمه، ولكنه يبدو أنه يَنزع نحو الحديث عن ما يمكن أن نسميه اليوم بمدينة النخبة، أو مجتمع النخبة، وهذا على كل حال ليس ضد السياسة. فالعمل السياسي، أو الأنظمة السياسية كلها، بشكل أو بآخر، تسلِّم أو ترضخ لفكرة النخبة. المسألة تتحدد فقط بطبيعة هذه النخبة: هل هي نخبة مالية، أم اقتصادية، أم غيرها. المجتمع اليوم هو مجتمع النُّخَب. الفرضية تتحدث عن النخبة الفلسفية أو الحكماء، ولذلك هي التي يمنحُها ابن باجة الخلود، أما الباقي كله فلا يتمتع في نظره بخلودٍ ما. طبعا، إن الخلود الذي يتحدث عنه ابن باجة هو الخلود العقلي، لا الخلود الجسماني. ولهذا نجده يمنح للنخبة الفلسفية وزنا وشرفا في التاريخ الإنساني، ويعتبرُها الضامن لوحدة الإنسانية. وهكذا يمكن القول إنه، بالعكس، لديه رؤية سياسية أوسع. إنه يريد أن يَستبدل نخبة الأمراء والفقهاء في المدن الجاهلة بنخبة أخرى هي نخبة الفلاسفة. ثم لا ينبغي أن ننسى أنه كان وزيرا للمرابطين طيلة أزيد من عشرين سنة، وأنه لم يكن غريبا عن المجالات السياسية، وإشارته في “تدبير المتوحد” إلى انقراض الدول، وإلى الأسباب التي تؤدي إلى هذا الانقراض، تنم على أنه لم يكن غريبا عن التأمل السياسي. وبالتالي من الصعب أن نقول إن فلسفته فلسفة لاسياسية.

 

& الصـورة: من خلال استقراء ما راكمتموه من إنتاجات فلسفية عبر مسيرتكم العلمية الطويلة، يلاحِظ المتتبع أن لديكم شغفا وعناية خاصة بالتراث الفلسفي لمنطقة الغرب الإسلامي. هكذا اشتغلتم على نماذج من أقطاب هذه الفلسفة، بدءا من ابن مسرة، إلى ابن باجة، مرورا بابن تومرت، ثم ابن رشد… ما هي الدواعي والعوامل التي حركتكم نحو هذا الاختيار؟ هل يتعلق الأمر لديكم بأسباب وطنية نابعة من الرغبة في إعادة الاعتبار لفلسفة الغرب الإسلامي، بالنظر إلى قلة الاهتمام بها قياسا إلى نظيرتها المشرقية؟ أم أن الأمر، بالأحرى، يتعلق بقناعتكم بوجود “خصوصية مميِّزة” لهذه الفلسفة؟

 

p  د. ألوزاد: بخصوص الاهتمام بفلسفة الغرب الإسلامي، لا زلتُ أتذكر كلمة لأحد الدارسين المشارقة، حينما صرح، ونحن ما زلنا طلابا بكلية الرباط، قائلا: لماذا يهتم غيركم بتراثكم وأنتم عنه غافلون؟ فمَن يُنكِر هذه القضية يُنكِر واقعَه أيضا. نحن أقرب إلى هذا التراث، ليس بالصفة الوطنية، أو بالمعنى الضيق والشوفيني. فأنا شخصيا لا أميل إلى مثل هذه النظرة، ولكنني أعتبر نفسي منتسِبا لهذه المنطقة كلها، أقصد المغرب والأندلس. فهناك نَسَبٌ لهذه المنطقة يَفرض عليّ بعض الواجبات، منها الاهتمام العلمي بها. ليس فقط بتراثها الفلسفي، فلو كنت في ميدان تخصصيٍّ آخر لكانت عنايتي بالمنطقة من هذه الزاوية التخصصية؛ جغرافيتِها مثلا، أو العناية بطقسها، وهكذا. لنقلْ إن ترتيب الأولويات تفرضه أو تساهم فيه، على كل حال، أسبابٌ تعود نوعا ما إلى المُسَاكَنَة أو المواطَنَة. واليوم، الدرس نتعلمُه من إسبانيا التي استطاعت أن تتجاوز جامعاتُها الحاجز التاريخي الذي كان يَحُول دونَها ودون العناية بتاريخها الإسلامي. فأصبح هذا التاريخ اليوم يُدرج في جامعاتها، ويُعتنَى به، ويتولاه مختصون، وتُخصَّص له ميزانيات هائلة وأبحاث مهمة، على أساس أنه مِلْكٌ للشعب الإسباني، بغض النظر عن الخلافات التاريخية والسياسية، ما دام قد نشأ على أرض هذا البلد وساهم فيه رجالُها وجيرانُها أيضا.

هذا جانب لا يمكنني أن أنكره أبدا. وأعتقد أننا سنكون مخطئين جدا لو أسندنا مثل هذه المهام إلى الآخرين، أو انتظرنا أن ينجزَها غيرُنا بالنيابة عنا. أعتقد أن الجامعة المغربية قد أَهدَرت الكثير من الطاقات حينما لم تهتم بالكثير مما كان يجب أن تَهتم به بالنسبة لموقعها الجغرافي. فما يقال ويُكتَب بصدد عبقريةِ المغرب والمغاربة، أعتقد أنها عبقرية تكمن في المكان بالدرجة الأولى؛ فموقعُه الجغرافي يمثل في تاريخه وفي مستقبله الشيء الكثير. فالمغرب لا يملك ثروات ضخمة، ولكنه يملك هذه الميزة الجغرافية التي يجب أن تَفرض نفسَها على جامعاتنا وعلى أبحاثنا. كان يُفترَض أيضا أن نمتلك اليوم ليس فقط عن الماضي بل حتى عن الحاضر- أن نمتلك معاهد ومراكز للبحث في المنطقة الإسبانية، وفي تاريخها المعاصر من جميع الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها. والأمر نفسُه بالنسبة لجيراننا المغاربيين، وأيضا بالنسبة لجيراننا الأفارقة في الجنوب. وللأسف، فإن الجامعة لدينا لا تمارس هذا الدور، ما تزال بعيدة عن تحقيق هذا الطموح، ولا تلبي الحاجيات التي يفرضها الواقع المغربي الجيوسياسي.

بقيت مسألة أخرى، وهي هل هناك ما يحركني شخصيا لأحتضن هذا الاتجاه؟ هناك بدون شك أمور أخرى حركتني أيضا في هذا الاتجاه، منها اتصالي عموما بباحثين في هذا الميدان، هذا الاتصال كان له أثر كبير على الاتجاه الذي سلكتُه. وفي المقام الأول بدون شك صلتي بباحثين هنا بالمغرب وبفرنسا ممن أيقظوا لديَّ هذا الاهتمام، وأيقظوا لديَّ في الوقت نفسه اتجاها نقديا معيَّنا. لا أقصد فقط الأعمال التي أنجزتْ في إطار الفكر الإسلامي، ولكن حتى في الإطار الغربي نفسِه، حيث لاحظتُ أنها، حتى في سياقها، لمْ تَأخُذ ولمْ تَكتسِب القيمة التي كان يجب أن تحظى بها. إن الغرب الآن قد بدأ يَتجاوز هذا الوضع مع ظهور مجموعة من الباحثين الذين بدأوا يحاولون إنارة الرأي العام بهذا النمط من الأبحاث. ويُتوقع يوما ما أن تساير الجامعات الغربية هذا النمط من الأبحاث، خصوصا تلك التي تَحْتَضِن جاليات إسلامية، أنْ تسايِر هذا الاتجاه في إنارة الفكر الفلسفي الإسلامي ومنحِه موقعا عالميا في تاريخ الفلسفة، حتى لا يظل هذا القصور الملاحَظ دائما لدى فلاسفة الغرب أنفسِهم في التعرف على الفلسفة الإسلامية.

أما بالنسبة لمسألة “القطيعة”، فإن لها تاريخا يعود بنا إلى خلافات جرت خلال إحدى الندوات بكلية الآداب بالرباط، سينطلق منها جدال آخر ما بين المشرق والمغرب اليوم، خاصة بعض المشارقة الذين أغضبتهم أو أزعجتهم الفكرة. أنا شخصيا لا دَخْلَ لي كثيرا في هذا السجال؛ لأنني لا أزعم أنني مصلِح، لأن كل هؤلاء تقريبا يزعمون أنهم مصلحون، لا يصلحون الفكر فقط ولكن يصلحون المجتمع. وزَعْمُهُم مبنيٌّ على أساس أنه إذا تحقَّق إصلاحُ الفكر عبر دعوات أو تأليفات معيَّنة، يمكن أن يحَقِّق المجتمع تطورا. هذه أطروحة معروفة. طبعا، كانت الماركسية تقول إنه إذا أصلِحت الأوضاع الاقتصادية للطبقة العاملة وللفئات الكادحة يمكن أن يتم إصلاح المجتمع. هذه المقولة الماركسية تُستبدَل هنا بمقولةٍ ربما فيها شيءٌ من المثالية القائلة بأن إصلاح الفكر ربما يُعتبَر مقدمة لإصلاح المجتمع وإخراجه من مرحلة الانحطاط. أنا ليست لديَّ هذه النزعة، وأحترم أصحابَها. فبالنسبة لي، أولا أنْ أحمل معي فكرة القطيعة منذ البداية، هذا في اعتقادي أمر غير علمي. فحينما أفحص أيَّ نص إسلامي، هل أجد عند أبي بكر ابن باجة أو عند ابن رشد مثلا هذا النوع من الانفصال، أو شيئا من هذا القبيل؟ هل هناك مسار ثقافي أو تقليد فلسفي متمايز يرقى إلى مستوى القطيعة؟ شخصيا لم أقع بعد على ما يثبت ذلك. هل يمكن أن يمثل أيُّ نقد أو أيُّ خلاف عنصرَ فصل وانفصال؟ هذا أمر لا تؤيده الوثائق، ولا تسنده المعطيات الحالية، ما لم يَحْصُل جديد مستقبلا.

وحول دلالات الصراع أو المواجهة بين التيار الفيضي للفارابي ولابن سينا من جهة، وبين التيار العقلاني لابن باجة ولابن رشد من جهة أخرى، لا نملك ما يؤيد أية أطروحة، ولا نملك ما يؤيد، حتى في تاريخ الفلسفة، أن تيارا أفضل من تيار. فتجربة البحث الفلسفي في تاريخ الفلسفة، تكشف لنا أن العقلنة نفسَها تختفي وراء اللاعقلنة، وأن شيوع تيار معيَّن لا يلغي التيار الذي سبقه وبُنِيَ على نقده. فلا يمكن مثلا أن نرجِّح أرسطو على أفلاطون في تاريخ الفلسفة. لا شك أن الأفلاطونية لعبت دورا هاما، فالكثيرون لا يَعرفون أن ديكارت أفلاطوني، إنه انتقام لأفلاطون على أرسطو الذي هيمن على العصر الوسيط، فجاء ديكارت ليُعيد الاعتبار لأفلاطون، فكانت الحداثة الفلسفية. إذن، جاءت الحداثة عن طريق “الأفلاطونية”. فلو نظرنا إلى هذه المسألة من منظور العقلاني واللاعقلاني لَمَا كان الأمر مستساغا. ففي تاريخ الفلسفة، من الصعب جدا أن نضع أنفسنا في موقع تفضيلي أو ترجيحي لاتجاه بعينه على حساب غيره من الاتجاهات. هناك معايير أخرى أكثر علمية من هذه.

ثم أخيرا وبهذه المناسبة، أعتقد أن الوقت قد حان للباحثين في الجامعات المغربية أن يتخلصوا تماما من فكرة “المثقف/النبي”. يجب أن تنتهي هذه الأطروحة التي تعود إلى زمن النضال منذ قرن على الخصوص، بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. هذه الأشياء قد أصبحت الآن متجاوزَة كثيرا. فاليوم أصبحنا  نتحدث عن المثقف/الخبير، المثقف/المتخصص، المثقف المتواضع الذي يدرك حدود عمله ويَعرف أين يجب أن يقف. علينا أن نحترم هذه الآفاق، وأن نسمح لفاعلين آخرين لهم شروط أخرى للعمل لا يمكن للمثقف أن يتولاها أو أن يَحُلّ محلهم فيها. واعتقاد بعض المفكرين أنهم يشكلون “ضمير الأمة” أو يمثلون “رموزا خالدة”، هذه أشياء تبدو لي غير ذات قيمة. ومن النادر أن تتوافق أحكام الحاضر مع أحكام المستقبَل الذي لا تنقطع تحولاته.

 

& الصـورة: يقول الأستاذ طه عبد الرحمن في “حوارات من أجل المستقبل” (منشورات الزمن، عدد 13 أبريل 2000، ص: 84): “فلئِنْ صحَّ أنْ نقول بأنّ ابن رشد فقيهٌ وفيلسوف معا، فلا يصحُّ أنْ نقول بأنه فقيهٌ فيلسوف، لأن هذا يفيد أنّ تكوينَه الفقهي قد أثمر لديه اجتهادا فلسفيا خاصا… فلا أثر عنده لحكمةٍ متميزة تَستمد مبادئَها، أو، على الأقل، روحَها من ممارستِه الفقهية والشرعية. كما لا يصحُّ أن نقول بأنه فيلسوفٌ فقيه، لأن هذا يفيد أن تكوينه الفلسفي قد أفضى به إلى استخدام معارفه الفلسفية في المجال الفقهي… باختصار، إن ابن رشد لم يبدِع في الفلسفة عن طريق الفقه، ولا أبدع في الفقه عن طريق الفلسفة“.

ـ هل تتفقون مع هذه الأطروحة؟ وهل صحيح أنْ لا تأثير لممارسة ابن رشد الفقهية في تفكيره الفلسفي؟ أَوَ لمْ يكن لفلسفته تأثيرٌ على باقي الحقول المعرفية الأخرى التي اشتغل بها؟

 

p  د. ألوزاد: مثل هذه الأطروحات تدخل ضمن تأويلات معيَّنة. إن الأستاذ طه عبد الرحمان يَحفل تاريخُه العلمي بدون شك بأعمال جادة على مستوى التحليل والتنقيب، ولغته تسمو بالقارئ إلى مستويات من الفهم لا ترقى إليها لغات أخرى. ولكن مثل هذه الأحكام الشاملة على فلسفة الفيلسوف تحتاج إلى نوع من التحفظ. فمن الممكن أن نقول إن عددا من أعمال ابن رشد التي أمكننا الاطلاع عليها اليوم قد لا نجد فعلا للفقه فيها موقعا، ولكن من الصعب أن يمتد هذا الحكم ليشمل ما لم نستطع إلى اليوم أن نحققه أو نفحصه، بحيث أن مثل هذا الحكم يتطلب على كل حال وجود نشرة نقدية وعلمية لسائر ما أنتجه ابن رشد لتسمح لنا بذلك.

ولكنني لا أدري بالضبط ماذا يقصده الأستاذ طه بتأثير الفقه في الفلسفة؟ لأن هناك معنيين للتأثير: هناك من جهة معنى يمكننا أن نقول إنه مجرّد أثر لعِلمِه بالفقه، ينعكس في أسلوبه وطريقة تعبيره. وأعتقد أنه من الصعب للأستاذ طه أن يُنكر أن عددا من رسائل ابن رشد وُضِعت في نسق فقهي، أو قدِّمت بأسلوب فقهي. فتقسيم القضايا كما يقسمها الفقهاء يقسمها ابن رشد بنفس النظام، وهذا شيء نجده مثلا في “فصل المقال” المشهور، وهو نموذج مصغَّر للفتوى الفقهية. لكن هل كان للفقه أثر أعمق في مذهب ابن رشد؟ أنا أؤيد الرأي القائل بأنه ليس للفقه صلة بالفلسفة، ولكن لا بمعنى أنه لا يمكن أن يكون للفقه دور فلسفي أصلا. لعل الأستاذ طه يرى أن للفقه دور فلسفي، لكنه لا يرى أن له هذا الدور في فلسفة ابن رشد مثلا. أنا لا أعرف بالضبط السياق الذي وَرد فيه هذا القول، ولكني أقبَلُ منه أنّ الفقه ليس له دور في فلسفة ابن رشد، وهو أمر تؤيده الوثائق المتوفرة حاليا، ولكني لا أستطيع أن أسلِّم معه –في حدود علمي- أن الفقه يملك أيّ دور فلسفي، لسبب رئيسي هو أننا لا نملك ما يُسمَّى بفلسفة الفقه أو فلسفة القانون. فالإسلام لم يَعرف شيئا اسمه فلسفة القانون، أو فلسفة الفقه، أعني أن محاولة تقعيد المبادئ شيء ضعيف عندنا. ففي بنية التشريع الإسلامي، بُنيَ الفقه على مجرد استدلالاتٍ من مقدماتٍ معيَّنة فقط، ولذلك يقال دائما إنه عِلْمُ الظن. ننتظر ظهور فلسفة للفقه، وأن يكون للفقه فلسفة.. لست ضدّ أن يكون للفقه فلسفة. ننتظر من الأستاذ طه ومن آخرين أن يكشفوا الجوانب الفلسفية للفقه الإسلامي إذا كان يمكن الوصول إليها. فما لم تقدَّم مثلُ هذه المعطيات، فإن الأمر يبقى مجرد تخمين أو مجرد فرضية.

أما بخصوص التساؤل عما إذا كان للفلسفة تأثير على باقي الحقول المعرفية، فلا بد أن أضع ملاحظة أساسية في هذا الباب، وهي أن كثيرا من الباحثين عندنا، وخاصة المبتدئين منهم، غالبا ما يضيِّعُون أعمارهم تحت تأثير مثل هذه الأطروحة، حيث يتوهمون أن الفكر الفلسفي يندرج أو يمكن إدراجُه ضمن الفكر العام. هذه المقولة هي مقولة بنيوية من جهة، وكانت قد ظهرت في أعقاب الحرب، وتؤيدها اليوم اتجاهات مضادة للفلسفة نفسِها. وقد انتشرت كثيرا حتى لدى من يعارضون الفلسفة ويعارضون الفكر الفلسفي. فيَعيش الطلبة والباحثون المبتدئون هاجس جَمْع ما لا يَجتمع، ولمِّ ما لا يَلتئم. علينا أن نُقرَّ في البحث الفلسفي بما نُقرُّ به في سائر الميادين، أنه هناك صلات، ولكن لا فائدة للباحث في أن يخلط بين هذه الأمور؛ فسقوط جسم معيَّن ينبغي أنْ ندرسَه في نطاقه المحدود، لا أن نقيس تأثير المريخ في هذا السقوط. صحيح، قد يَحضر مثل هذا التأثير، لكن هذا لا يفيد البحث، وإنما قد يُفسده. الذين يبحثون مثل هذه الأبحاث هم كمن يَبحث مثل هذا البحث الشمولي المطلق.. فالفلسفة، مثلها مثل علم الفلك والعلوم التعاليمية وعلم الطب والعلوم التجريبية وعلوم الآداب، لها بعض الصلات والوشائج التي تربطها بعضُها ببعض، ولكن ما يَفْصِلها هو الأهم. والباحث عليه أن يحرص على ما يَفْصِل لا على ما يَتصِل.. فلا فائدة في البحث في هذه العلاقات التي لا تَعرِف حدودا، لأنها قد تنقلنا بدون نهاية من مفكر إلى مفكر؛ كأن نقول مثلا إن الغزالي قد أثَّر في ابن رشد، وأن الغزالي أثر فيه إمام الحرمين الجويني، ونَدخل في شبكة لا تنتهي. هذا لا يُغري الباحثين ولا يُنتج بحثا علميا. الفلسفة نمط من التفكير له استقلاليتُه وخصوصيتُه وحدودُه، على الباحث أن يحترمها ويعمل في نطاقها، في إطار زمني محدَّد. ولذا، إذا أردنا الحديث عن فلسفة أصولية علينا أن نرى أيَّ عمل يعبِّر عن هذه الفلسفة، أما ما يبدو أنه مجرد أثر، فهذه الأشياء يمكن الإشارة إليها في الهوامش، دون الدخول فيها، ودون الدخول في تطويعات اصطناعية مثل محاولات البعض جعل ما يقوله ابن رشد في الطب يَخضع له ما قاله في ما بعد الطبيعة. القدماء أنفسهم قد أدركوا الفوارق، وكان هناك أناس يقولون عنهم إنهم حكماء، وهناك من يقولون عنهم إنهم أطباء، وأناس يقولون عنهم إنهم موسيقيون، وأنهم يشاركون فقط في هذه العلوم. فحتى من استطاع أن يَجمع في بعض الحالات بين تخصصين، فذلك شخص متفرد، ويبدو كشخصين في جسم واحد، والباحث عليه أن يحترم هذه الفواصل والفوارق. وللأسف، أعرف بعض الأسماء التي استغرقتها هذه الاهتمامات في البحث، خاصة وأن هذا الاتجاه ينحو بصاحبه أيضا، منحى أخطر من ذلك وهو أن يتوهم أنه، وهو يبحث في كل هذه المجالات، يبحث في “فكر عربي”، أو يبحث في “عقل إسلامي” لا حدود ولا ساحل له.

 

&  الصـورة: ألا يعود هذا إلى تأثر باحثينا بما أنجز في الغرب من دراسات شبيهة بهاته، كحديث ميشيل فوكو مثلا عن “الإبيستيميات” المميِّزة لعصر من العصور…الخ؟

 

p  د. ألوزاد: إن الغرب في الواقع يغطي هذه النقائص. إنه يمتلك أرضية توثيقية قوية تسمح له بأن يَلمس كثيرا من الجوانب التي لا نستطيع نحن امتلاكها، فالولادات والوفيات مثلا، والمصحّات االعقلية وغير ذلك، كلها تتوفر على ملفات وعلى أرشيفات تاريخية يستطيع الباحث بفضلها أن يلقي نظرة ليَلمس كثيرا من طرق العلاج وغيرها، وأن يستطلع نظرة أفضل من نظرتنا نحن إلى المجتمعات الإسلامية التي لم تكن منشغلة بهذا ولا تدرك وسائله. ولكن المؤسف حقا هو أننا نعوِّل على مجرد كتب نظرية محضة، فنعتقد أنها تمثل، بالاستنباط المحض، حقائق مجتمعاتنا الوسطوية إلى حدود الصين. والحال أننا اليوم نعرف أنه حتى في مجتمعاتنا الراهنة، رغم وسائل الاتصال، هناك أناس كتبوا كتبا لا يعرفها أحد، وتراكمات لا نستطيع استقراءها.

 

&  الصـورة: إذا كان ابن رشد ـ شأنُه في ذلك شأن باقي الفلاسفة المسلمين ـ قد عانى كثيرا من التأثير السلبي للسلطات الفقهية والسياسية في زمانه، فكيف تفسرون استمرار محاربة الفكر الرشدي في زماننا الراهن هذا بدعاوي ومسوِّغات ملتوية؛ كالقول بـ”أن الهدف البعيد من وراء هذه الدعوة (إلى الفكر الرشدي) هو بث روح العلمانية في نفوس المسلمين والعرب..” (طه عبد الرحمن: م. س، ص: 86)، أو القول بأن ابن رشد “مقلدٌ لأرسطو، بل ليس في فلاسفة الإسلام مَن هو أشدُّ منه تقليدا لفلاسفة اليونان..” (م. ن، ص: 90-91)، أو القول بـ”أن انبعاث الأمة العربية الإسلامية لن يكون عن طريق فكر ابن رشد، ولو استنفَر الرشديون عَدَدَهُم وعُدَّتهم كلها لِبَثه في النفوس، بالترغيب أو الترهيب..” (م. ن، ص: 92).

ـ ألا يُعَبِّر هذا العداء الصريح لفكر ابن رشد عن استمرار تضييق الخناق على الفكر الفلسفي حتى من طرف بعض كبار المشتغلين بالفلسفة، فضلا عمَّن سواهم مِن غير المشتغلين بها؟

 

p  د. ألوزاد: أعتقد أن الأستاذ طه عبد الرحمان خِرِّيج شعبة الفلسفة، ومن المتخصصين فيها، ومن المتشبعين بالروح الفلسفية. قد تكون خصومته مع ابن رشد ليست في الحقيقة خصومة مع ابن رشد ذاتِه، بل بالأحرى خصومة مع الذين يريدون إحياء ابن رشد. أعتقد أن هناك أمورا يصيب فيها، وهناك أشياء مَحَطّ جدال وسجال كلامي. ما أوافقه عليه، وما يهمني شخصيا، هو نقده للطريقة التي استعملها مَنْ يَنسِبون أنفسهم لابن رشد، خاصة في المشرق وبعض المغاربة. وهي طريقة غير علمية في التعامل مع النصوص الرشدية. أعني محاولة جعل ابن رشد ينطق بما يريده الباحث، لا بما هو كامن في النص. هذا نوع من التعسف في التعامل مع الأقوال الرشدية. وهو شيء حتى وإن تمَّ لأغراضٍ نبيلة، كنشر العقلانية والحداثة والعلمانية، كيفما كانت الغايات، فهو من الناحية العلمية غير مبرَّر، ولا يمكن أن نبرر هذا الخلط ما بين ابن رشد التاريخي وابن رشد كما نريد أن نوظفه اليوم. لكل إنسان أن يصوِّر ابن رشد كما يريد، فتاريخ الفلسفة كتاريخ الآداب يَسمح بذلك. فكل فيلسوف في الغرب له سقراطُه. هذا شيء معروف منذ أفلاطون إلى سارتر، كلٌّ له تصور معيَّن عن سقراط يمكن أن يُنشئه كما يريد، ولكن سقراط التاريخي لا أحد يجب أن يخالف في إشكاله التاريخي؛ أي الاعتراف بأن لسقراط تاريخ يكتنفُه غموض والتباسات وأشياء مبهَمة يسلِّم بها المؤرخون. والكل يَحترم سقراط التاريخي، و يدرك صعوباته، ويترك أمرَه للمؤرخين. المشكلة الحاصلة الآن، والتي قد تبرِّر أو قد تُسوِّغ ما يقوله الأستاذ طه عبد الرحمن، وإن كان في لغته ربما بعض القسوة، هو أننا، فيما يُكتب عن ابن رشد، لا نحترم هذا الفصل، حيث لا يَحرص هؤلاء على أن يقولوا للناس إن ما نقدمه لكم هو تصورنا وقراءتنا الخاصة لابن رشد، أما ابن رشد كما تَكتب عنه التواريخ، فللباحثين أن يقدموه لكم. بل على العكس، يُقال لهم إن ما نقدمه لكم هو ما كان عليه ابن رشد. في هذا المجال، يبدو أن للأستاذ طه عبد الرحمان بعض الحق في ذلك. فالفيلم السينمائي الذي أنجزه مثلا يوسف شاهين في السنوات الأخيرة حول محنة ابن رشد (شريط “المصير”) هو قراءة ممكنة، وتصور فني مباح. والبعض من الغاضبين لا يُعتدّ بهم، فالعمل الفني السريالي يمكن أن يَرسم ابن رشد بالطريقة السريالية، ولا أحد يمكن أن يمنعه من أن يُدخل ابن رشد في المِخيال الفني، وأن يُخرجه من التاريخ ليعيد قراءته كما يشاء، ولكن عليه أن يقول للناس بأن هذا العمل يمثل مُجَرّد قراءتي أو صورتي الشخصية لابن رشد. ولكن هذا لم يحدث. وللأسف، فمنذ كتاب فرح أنطوان (ابن رشد وفلسفته) إلى الآن، نجد الاتجاه الغالب هو محاولة تقديم ابن رشد كما لو كان بالفعل هو ابن رشد التاريخي. هذا شيء نرجو أن نتخلص منه مستقبلا، ومثل هذا المركز للدراسات الرشدية الذي نعمل فيه وغيرُه مهمته هو أن نحقق استقلالية لابن رشد التاريخي، ليُفتح المجال آنذاك أمام الخيال، أو أمام التصورات الفلسفية لتتمتع بمشروعيتها المستقلة.

أما القول بأن انبعاث الأمة لن يكون عن طريق فكر ابن رشد، فإن من يَعتبر نفسَه مكلَّفا بانبعاث الأمة هو الذي يستطيع أن يجيب. الساسة يزعمون ذلك في لحظات تاريخية معيَّنة، ولكن كيف يمكن لباحث في ابن رشد كيفما كان، مصيبا أو غير مصيب، دقيقا أو غير دقيق، علميا أو غير علمي، أن يكون سببا في انبعاث الأمة! هذا شيء لا أفهمه. أعتقد أنه يتجاوز ما يمكن أن يحققه أيُّ مثقف أو أيُّ باحث أو أيُّ عالِم في تاريخ الإنسانية كلها. لعل النشاط العلمي والأدبي والفني في مجتمع ما يمكن أن يهيِّئ انبعاث الأمة، والاقتصاد أيضا يمكن أن يهيِّئ انبعاث أمة. الانبعاث مسألة ربما لها شروط أخرى. إذا زَعَم الرشديون غير ذلك فهُمْ مخطئون، وإذا زَعَم أيضا مَنْ يَردُّ عليهم أنه من يملك وسيلة لانبعاث الأمة فهو بدوره مخطئ، فالأمر سِيَان. لا ننسى بأن الدور الاقتصادي اليوم أصبح أخطر من الدور الثقافي بكثير، فالزمن الراهن يعيش طفرة اقتصادية تكنولوجية. هؤلاء الاقتصاديون، ربما، أوْلى بأن يَقُولوا إنهم يمكن أن يحققوا انبعاث أمة، ومع ذلك فإنهم لا يزعمون ذلك. فالاقتصادي العاقل متواضع جدا وتقديراته شديدة التواضع وتَحْكُمُها عدة شروط ومتغيرات، بل ربما قد تأتي الوقائع على غير ما كان يتوقعه، أو قد تسوء الأوضاع ولا تتحسن. فكيف يمكن، في وضعية أخرى ليست لها نفس الأهمية، أن نزعم أننا كفيلون بتحقيق انبعاث أمةٍ، بحتميةٍ ويقين مطلق؟

 

& الصـورة: ألا تلاحظون أن هذا التوتر الحاصل بين أطروحات واجتهادات الأستاذ طه عبد الرحمان وبين زملائه من الرشديين يؤشِّر على تفشي نمط من “حوار الصُّم” بين الأطراف الفاعلة في الحقل الفلسفي والثقافي ببلادنا، وبالعالم العربي عموما، حيث لا أحد يَقرأ لأحد، ولا أحد يكترث باجتهادات الغير. هذا فضلا عن استفحال ظاهرة نُدرة القراءة، إن لم نقل انعدامها في أوساط عموم المتعلمين.

ـ ما هو تعليقكم على هذه الظواهر السلبية، قياسا إلى تلك اللحظات المشرقة في تراثنا القديم، حيث الحوار الخصب والخلاق بين “التهافتين” مثلا أيام الغزالي وابن رشد؟

 

p  د. ألوزاد: هذه مشكلة حقيقية فعلا. إن الوضعية السلبية التي تكابدها القراءة قد ابتدأت منذ السبعينات، حيث بدأنا نلاحظ بعض الانحدار في نسبة القراءة. وسوق تداول الكتاب ما فتئ الآن يؤشر على تراجع مخيف، وهو تراجع يرتبط بأوضاع المغرب. وإذا انتقلنا إلى مجتمعات إسلامية أخرى، فسنجد الوضعية أسوأ. ولكن وضعية القراءة في المغرب أصبحت حاليا تنذر بالخطر. أرى أن السوق الثقافية العامة في جميع البلدان أصبحت تهيمن عليها اليوم ثقافة الصورة، والناس تحوَّلوا إلى مجرد مشاهِدين سلبيين، يَهضمون ما يقدَّم لهم دون أيِّ نقاش أو استعمال لقدراتهم الذهنية.

هناك جانب آخر يمكن أن نسميه بـ”الديانة الشعبوية” أو “الإسلام الشعبوي”. لا أقصد طبعا الإسلام بالمعنى العميق في التراث الإسلامي الأصيل، وإنما أقصد هذه المجموعة الهائلة جدا من الكتب والمبسَّطات وغيرها التي تحلِّل وتحرِّم وتَشِيعُ في أيدي القراء، تُبَسِّط لهم الأمور وتجسِّد لهم كل شيء، تَعِدُهُم بوعود مُغرية. هذه أيضا سوق رائجة.

الأمر الثالث الذي لا يمكن إغفاله هو عامل الدَّخل الفردي؛ ففي المغرب يلاحَظ التفقير المتزايد للطبقة الوسطى. والاقتصاديون كلهم يُجمعون الآن أن المغرب أقدمَ على القضاء خلال الثمانينات على الطبقة الوسطى. فالطبقة الوسطى هي التي كانت وما تزال في المغرب تشكل سوق الكتاب، وهي التي تروِّج النشاط الثقافي، وهي التي تنفق على شراء الكتاب. وللأسف، فإن مداخيلها تتجه الآن إلى الانخفاض وتعاني من البطالة ومن القهر السياسي.

أما فيما يتعلق بهذا النمط من حوار الصم المنتشر بين الممارسين للفلسفة وغير الفلسفة، فأعتقد أنه يَرجع إلى ظاهرة كان يَعرفها المغرب قديما في مدارسه العتيقة، وكان يَعرفها علماءه القدامى، أعني ظاهرة التنافس غير الإيجابي. وأذكر هنا على سبيل المثال أن أساتذة الجامعة قلَّ أن يُشيروا إلى كتاب لزميل لهم، وأعرف حالات كانت فيها الاستفادة قائمة والإشارة منعدمة! وهذه كلها أوضاعُ تَنَافُس غير سليم في الجامعات، أعتقد أن حلها يكمن في تصحيح النظام الجامعي المغربي وإخراجه من الطريق التقليدي. أعني أن يُمنح الأستاذ الجامعي صاحبُ الكرسي فريقا للعمل يعمل معه، يوجهُه في أبحاثه، وينسق مسألة التضامن العلمي، ويَخلق هذه الروح الجمعية منذ بدايات السلك الثالث. فالشعور الذي يظل في النفوس ويكرس هذا التنافس غير المحمود، هو أن كل شخص يظن أنه خَطَّط لنفسه وحدَه، وأنْ لا فضل لأحدٍ عليه، ومن ثم، فإنه يتوهم نفسَه دائما على حقٍّ وأن الآخرون على باطل. وهذه ظاهرة نلاحظها حتى  في الاقتصاد الوطني المحلي في نُدرة الشركات المتضامنة خارج البنية العائلية، لأن كل واحد يعتقد أن هذا الإرث الذي يَنعم به قد حقَّقه بمفرده، وهو يَتماهَى معه ويَعتبرُه هويتَه ويَرفُضُ أن يشاركَه غيرُه فيه، ويَرفض أيَّ دَيْنٍ للآخَر عليه في هذه المجال. هذه الأمور يجب أن تتغير بتغيير نظام التعليم، وإلا، فمن الطبيعي أن تحدث في الجامعات ظواهر سلبية من هذا القبيل.

أما الخلاف في المواقف والنقد المتبادَل، هادئا أو عنيفا، فكله أمر محمود. فالجامعة ما كانت إلا مكانا للخلافات المذهبية وللخلافات في وجهات النظر. ولو توفرت الشروط الصحية لكانت هذه الخلافات إيجابية ولأنتجت مدارس وأعمالا ترقى إلى مستوى مشرِّف. ولكن النظام الجامعي للأسف لم يَشهد تحولا إيجابيا في هذا الاتجاه، بل شَهِد تدهورا، خصوصا بعد ظهور شُعَب لا صلة لها بكلية الآداب، وتعود بنا إلى النمط التقليدي الذي يَجعل فكرة البحث العلمي نفسَها غيرَ واضحة. فهي إحياء ساذج للمدارس العتيقة، ولا شأن لها بفكر طه عبد الرحمن، رغم مزاعم خصومه. فطه عبد الرحمان إنما يخالِف في مصادر أو منابع التفكير الفلسفي، ولكنه يسلِّم بالتفكير الفلسفي وبوَجاهتِه وأهميتِه، وهذا شيء لا يجب إنكاره.

 

& الصـورة: في بحثكم الذي يحمل عنوان: “في الرشدية العربية المعاصرة، مقاربات “الكشف عن مناهج الأدلة” نموذجا” (ضمن مجلة: “مقدمات“، عدد 15، شتاء 1998)، قمتم بفحص نقدي لنموذجين متعارضين من القراءات العربية المعاصرة للفلسفة الرشدية، أحدُهما يمثل ما أسميتموه “القراءة السلفية“، وهو محمود قاسم، من جهة، وثانيهما يمثل ما أسميتموه “القراءة التنويرية“، وهو محمد عابد الجابري، من جهة أخرى. وقد انتهيتم إلى الخلاصة الآتية: “إذا كانت القراءة الرشدية السلفية تعاني من البُعد الفلسفي المشائي، وتريد أن تتخلص من مأزقه المُحرج عقائديا، فإنّ القراءة الرشدية التنويرية تعاني من الأفق الوسطوي لأعمال ابن رشد. كيف يَستسيغ هذا الأفق الدعوةَ لحرية العقيدة والفكر!.. ورغم ذلك، نزعم أن بإمكان الرشدية المعاصِرة منحَ قراءتها لنصوص ابن رشد عمقا فلسفيا تستحقه، يتجاوبُ مع روح مشاغلنا اليوم إذا اقتدت بمسار الدراسات المشائية والوسيطية في الغرب. وهذا يعني الحرص على إغناء الأبحاث الدقيقة في ابن رشد التاريخي، وفصلها وتمييزها تماما عن “القراءات والتأويلات” التي تستلهمُها”. (م. س، ص: 36).

إن هذه الخلاصة التي انتهيتم إليها تضعنا أمام التساؤلات الآتية:

ـ كيف يمكن، عمليا وإجرائيا، الفصل، أثناء اشتغالنا على الفلسفة الرشدية، بين مطلب المعرفة العلمية الدقيقة من جهة، وبين مطلب ربط هذه الفلسفة برهانات مشاغلنا المعاصرة؟

ـ ألا ترون أن الدراسات المشائية والوسيطية في الغرب، التي دعوتم إلى استلهامها، لا تشكل في عمومها وحدةً متجانسة؟ وأنها، رغم التزامها بنهج أسلوب الأبحاث الدقيقة، فإنها مع ذلك لا تقل من حيث تعدد واختلاف خُلاصاتِها عمَّا نلحظه من تعددٍ في خُلاصاتِ الأبحاث العربية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأيُّ نموذج من الدراسات الغربية تقصدون بالضبط؟

ـ ألا ترون أن تحقيق دعوتكم إلى ضرورة استلهام تجربة البحث الفلسفي الغربي يصطدم لدينا بما يكابده البحث العلمي الفلسفي ببلادنا من غياب مؤسسات وهياكل علمية وطنية شبيهة من حيث الإمكانات والرعاية والدعم. وأنَّ قَدَر البحث الفلسفي ببلادنا أن يظل، والحالة هذه، رهينَ اجتهاداتٍ ومجهودات فردية؟

 

p  د. ألوزاد: سأنطلق من نهاية السؤال، وهي أن قدَر البحث الفلسفي منذ وُجد، وقدَر الفلسفة عموما أنْ تكون فردية، وأن تكون عملَ أفراد، ما في ذلك شك. وإلى اليوم لا نجد في الأعمال الفلسفية ما يمكن أن يعوِّض العمل الفردي. صحيح أن عملية التأريخ للفلسفة يمكن إنجازُها في نطاق مجموعات للبحث ذات أغراض متعددة، لكن الإبداع والإنتاج الفلسفي نفسَه يبقى في نهاية المطاف عملا فرديا، تماما مثل العمل الفني. وحتى بعض الميادين العلمية نفسها يظل فيها العمل فرديا، ولا مجال فيها لدور الجماعة.

أما بالنسبة لما نشرتُه في مجلة “مقدمات” حول محمود قاسم والجابري، فإن ما أريد أن أضيفه هنا هو أنه ليس المقصود بتاتا أن نظل متعلقين بابن رشد، فذلك سيكون بمثابة دوران في حلقة مفرغَة. المفروض أن يتطور البحث التاريخي ليَشمل كل الفلاسفة الذين لهم وزنهم في الفلسفة الإسلامية. إن ابن رشد يُعَدُّ مدخلا أيضا لأرسطو، وعلينا أن ننجز دراسات أرسطية أيضا.

إن استلهام النموذج الغربي ليس معناه بالضرورة تكرار ما استلهمَه بعض الغربيين أو غيرُهم. فالمهم هو أن هذا المشروع يجب أن يَشمل نهضة عامة لتاريخ الفلسفة في كل مَوَاطِنِها وكلِّ أشخاصها، وأن يَكون بذلك المجالُ مفتوحا لاستلهام كل ما يمكن استلهامُه عند هؤلاء الفلاسفة. فالمفروض أن توفِّر لنا الجامعات (وليس هذا صعبا إذا ما توفرت الإرادة والوسائل المحدودة جدا) قاعاتٌ مخصَّصة للبحث العلمي في الهيجيلية وفي الأرسطية، ولِمَ لا، حتى في الماركسية. لأن غياب النموذج الاشتراكي حاليا ليس حُجّة ضد ماركس كفيلسوف. وهكذا، فكل هؤلاء الأعلام يمكن أن يَجدوا مَحلَّهم، وأن يَجدوا لهم نخبة من الباحثين الذين يَفحصون النصوص ويَدرسونها. فليس معنى الوسطوية أن نظل في الوسطويات. بهذا المعنى يمكن أن نتوقع ظهور مثل هؤلاء الأعلام الذين قد يَستوعبون هذه الدروس التاريخية لإنجاز أعمال منفصلة. نحن الآن نطلب من الطالب أو من الباحث المستحيل، بحيث نطلب منه عبر مجموعة من الإملاءات ومن الدروس الجزئية ومن المترجَمات الضعيفة والسيئة، نطلب منه أن ينافس أعلام الفلاسفة فيما بعد! وأن يحقق لنا مشاريع فكرية فلسفية ضخمة!.. والحقيقة أن المغربي استثناء، فللمغرب امتياز، لأن بعض الجامعات المشرقية تملك كل الوسائل، لكنها لا تملك التأطير البشري الذي يملكه المغرب، وهو أمر لا يَعرف المغاربة قيمته الآن. والمؤسف أنه في الفترة التي بدأ فيها المغرب يتمكن من الحصول على الثمار التي غرسها منذ الخمسينات، (لأن التعليم الثانوي والتعليم الجامعي تعاضَدَا معا من أجل الوصول إلى هذه الغاية، وبدأنا نلاحظ تخرُّج عدد من الأفراد المهيَّئين والطموحين والراغبين في الإنتاج العلمي والفلسفي)، في هذه الفترة أصبح يقال لهؤلاء المتخرجين من شعب الفلسفة إنه لا جدوى لعملكم، ولا فائدة منه، وأن كل شيء رهين بأمور أخرى وبمهن أخرى… هذا هو المؤسف في المغرب، لأن كل هؤلاء الخريجين يمكن أن يتحولوا إلى أداة فاعلة وبدون تكلفة كبيرة. أعرف مثلا أن هناك أستاذا في التعليم الثانوي استطاع بمجهوده الفردي، وبوسائله البسيطة، ترجمة كتاب لأرسطو ترجمة رائعة، ونشرَه على حسابه الخاص… إن المغاربة يملكون هذه الروح الفلسفية وهذه الرغبة التي عملت عوامل عديدة على ترسيخها منذ زمن.

الأمر إذن لا يتعلق بأمنيات، بل بتخطيط نرجو في يوم ما أن يتحقق في مؤسسات وهياكل، وأن يُرعَى بالإمكانيات والدعم. ولِمَ لا نَحلم شيئا ما بالدعم؟ وما هو هذا الدعم؟ لو قورن اليوم حتى بما يُنفَق في مجالات أخرى داخل الجامعات للاحظنا أنه لا يمثل الشيء الكثير. يكفي أن يُحوَّل قسط من هذا الدعم لصالح البحث الفلسفي لتتحقق أهم دعائم المشروع الثقافي لهذه الأمة. صحيح أنه في زمن ما كان الجسم السياسي لا يَعِي قيمة النشاط الفلسفي، بل كان يَعتبرُه خصما. وفي بعض الحالات كان يَعتبره تافها ولا قيمة له، ولكن غياب الفلسفة اليوم أصبح يَخْلُق، كما يقال،  فلسفة رديئة. حينما بدأت هذه الفلسفة الرديئة تنتشر وتزعم أنها ضد الفلسفة، وتخلق مشاكل للمجتمع السياسي، استيقظ الاهتمام والوعي بأن المغرب ربما عاش، نسبيا، تحت المظلة الفلسفية. هذه المظلة المتواضعة حَمَته من كثير من السلبيات التي عرفتها مجتمعات أخرى تجاهَلت هذا النشاط، أو لم تكن تؤمن به على الإطلاق. فكثرة الأطباء والمهندسين لم تَحْم أحدا يوما ما من مغبة الفكر السيئ، أو الفكر المنحرف.

أعود إلى حديثي عن ضرورة استلهام أو الاقتداء ببعض الدراسات العلمية الغربية، لأقول بأن الوقت قد حان لأن نهيِّئ، كما دعا إلى ذلك سابقا الأستاذ عبد الله العروي، لأن نهيِّئ أيضا أعمالا أصيلة ووازنة في الفلسفة الغربية نفسِها وفي فلاسفة غربيين مغمورين. لِمَ لا ننجز أعمالا حول القديس أغسطين، أو توما الأكويني، أو جون ستيوارت ميل؟.. لقد حان الوقت كي تتحرك هذه العجلة، ليس بالضرورة أن نرجِّح فيلسوفا على حساب فيلسوف آخَر. يجب أن لا يقيَّد البحث في هذا المجال، وأن يُفتَح الحوار على مصراعيه. فتماما كما أن السوق المفتوح حَكَمٌ في المسائل الاقتصادية، فإن الحوار المفتوح كذلك حَكَمٌ في المسائل الفلسفية.

 

& الصـورة: في سياق نقدكم للرشدية العربية المعاصرة، أثرتم إشكالية بالغة العواصة، تتعلق بالدور الذي لعبه علم الكلام في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، والذي يمكن أن يقوم به في زماننا الحاضر من خلال علاقته المزدوجة بكلٍّ من العقيدة والفلسفة، حيث دعوتم إلى ضرورة تجاوز بعض المواقف “اللاأدرية” لابن رشد بخصوص مواضيع فلسفية/كلامية، كمسألة العلم الإلهي، والصفات الإلهية… والتي اضطرته إليها ظرفيته المجتمعية الخاصة، من أجل رد الاعتبار لعلم الكلام، فقلتم بأنّ “وضْعَ الإرث الكلامي الضخم كله بين قوسين سيشكك في إمكانية أيِّ تجديد عقائدي تتوقعُه الحكمة من الملة منذ زمن الفارابي، والذي أصبح ضرورة حيوية منذ فجر النهضة الحديثة. فوحدَه الفقيه/المتكلم هو الذي يملك واقعيا الفعالية المباشرة في الحَدَث الديني في الإسلام. واستمرارُ غياب هذا التجديد الكلامي الفعال إنما خَدَم ويَخْدُم قضية السلفية الحنبلية النقلية المحافِظة التي تنفر من كل مظاهر البحث العقلي الكلامي والفلسفي” (م. س، ص: 32).

    ـ نلتمس منكم مزيدا من التوضيح بخصوص هذه النقطة. هل ستنتظر الفلسفة من علم الكلام أن يمهِّد لها الطريق لتشتغل بحرية أكبر؟ أم على الفلسفة، بالمقابل، أن تعُود مجدَّدا إلى اقتحام مجالات علم الكلام لتسريع وتيرة التجديد العقائدي المنشود؟ ثم ألا يعيقنا الانشغال بهذه المهام عن مسايرة ركب التطور الفلسفي العالمي المعاصر، ويجعلنا، بالتالي، نقع على هامشه، بَدَل الانخراط الفعلي في صميمه؟

 

p  د. ألوزاد: يندرج هذا السؤال في إطار ما يمكن أن نسميه إن صح التعبير- دعوةً  إلى لإصلاح الديني في الإسلام: كيف يمكن أن يوفِّق المسلم بين عقيدته وبين الواقع المعاصر بكل تعقيداته حتى لا نصل إما إلى دمار الفرد نفسِه، أو إلى مسخ ثقافته، وهي نتيجة فظيعة وكارثية جدا بالنسبة لحياة الفرد والجماعة على السواء. حتى لا نصل إلى هذه النتيجة، علينا أن نَستدرك التأخر الحاصل في الإصلاح الديني، ذلك الإصلاح الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر، حيث بدأت هذه الدعوة في نطاق السلفية. لكن الخطوات التي أنجزَتْ اقتصرت للأسف على المستوى العمَلي، ولم تنجَز نفسُ الخطوات على المستوى النظري. فلو قرأنا “رسالة التوحيد” لمحمد عبده وقارناها بدعواته في الميدان السياسي والاجتماعي، أي بما يتعلق بمسألة الخلافة وبآرائه في التعليم والاختلاط وغيرها، لرأينا أن هذه خطوات مهمة لا يعادلها ما ورد في “رسالة التوحيد”. الشيء الذي أعاق كثيرا الإصلاح الديني في الإسلام، ووَضع له حدودا لا يتجاوزها، بل سرعان ما استغِل هذا التأخر في الإصلاح النظري من أجل إعاقة تطور الإصلاح العمَلي فيما بعد، حين  بدأت الحنبلية في شخص رشيد رضا وحسن البنا تكتسح الساحة المصرية خلال العشرينات. ونحن نلاحظ حاليا كيف تستغَل المحافَظَة النظرية لدعم المحافَظَة على المستوى العمَلي.

من يستطيع القيام بهذا الإصلاح؟ أعلم أن الفلسفة لا تستطيع في الإسلام أن تضطلع بذلك بصورة مباشرة. المفكر والأديب بدورهما لا يستطيعان ذلك، والسياسي أيضا لا شأن له في هذا الباب. إن الإصلاح لن يكون ممكنا دون مشروعية معيَّة، فإنه لا يمكن تصوُّر حدوث تغيير دون أن يكون المنطلَق هو الفقه الإسلامي. ولكن متى يصبح الفقه قادرا على الإصلاح؟ إنه يستطيع ذلك حينما يستعيد قدرته على مناقشة القضايا النظرية الأساسية، أي حينما يصبح الفقيه متكلما. وهذا أمر مشروع ومقبول في الإسلام، تخلت عنه التقاليد الإسلامية فقط في زمن متأخر. فالمعتزلة مثلا كانوا فقهاء ومتكلمين. وعليه، فإنه من الممكن إحداث ثورة إصلاحية في الإسلام إذا ما أحدثنا ثورة في التكوين الحالي للفقهاء. الإصلاح الديني سيكون عميقا إذا ما أحدثنا إصلاحا عميقا في التكوين بصفة عامة؛ التكوين الكلامي إضافة للتكوين الفقهي، ولكن يجب أن يتولاه مختصون ذوو معرفة علمية دقيقة بعلم الكلام، بالفلسفة، بالفكر السياسي إلخ، حتى يُتاحَ عبْرَها التطرق إلى العديد من المسائل التي تُسَلَّم الآن وتُعتبَر منطلَقات وتُبْنَى عليها بناءات رئيسية وخطيرة جدا، كمسألة التكفير التي يَنسَى البعض أنها قضية كلامية تحتاج اليوم إلى مراجعة وإعادة نظر، وهي مراجَعة ممكنة ومشروعة جدا في الإسلام. بدلا من البقاء في مسألة الحدود الشرعية والنقاش حول تطبيق الشريعة، فإننا في الحقيقة ننسى الأساس، ننسى أن الأرضية كلها هي التي يجب أن تراجَع، بدلا من البقاء فقط فيما هو عَمَلي.

أما السؤال حول موقع الفلسفة: هل تنتظِر الفلسفة أو لا تنتظِر؟ لقد سبق لمحمد عبده أن قال كلمة غيرَ منصِفة في حق فلاسفة الإسلام. قال إن سبب مِحَنِهم أنهم دَخَلوا طرفا في الصراعات الكلامية، بينما كان الأوْلى بهم أن يَبتعدوا عنها. لا فائدة للفلاسفة اليوم في أن يَدخلوا بتاتا في الصراعات ذات الصلة بالإصلاح الديني، حيث لا يمكن أن يُحدثوا أيَّ تغيير، بل يمكنهم أن يُحدثوا النقيض لأسباب تاريخية. فالمجتمع ليس مهيأ لأن يَستمع إلى الفلاسفة بهذه الصورة المباشرة، ولكن يمكن أن يَستمع إليهم بصورة أخرى، ويمكنهم أن يساهموا إيجابيا في مثل هذا الإصلاح بكيفية أخرى وفي موازاة معه إذا تَفَرَّغوا لأعمال تجاهلوها منذ القديم. هناك مجالات لم تقل فيها الفلسفة قديما شيئا، وبإمكانها اليوم أن تقول فيها، وأن يَدعم ذلك عملية الإصلاح الديني. مثلا هناك غياب كلي على مستوى فلسفة التشريع وفلسفة الحق. ما الذي يمنع الفلاسفة اليوم في الإسلام أن يقدِّموا أعمالا في هذا الباب؟ ما السبب في ذلك؟ رغم أنه حينما يَقبل الفقيه تعديلات في الأصول وغيرها سيجد السند التشريعي في الفلسفة، وسيجد الأرض ممهَّدة في مدوَّنات قانونية أخرى تقدِّم تعديلات فلسفية أخرى. لماذا لا نُعيد اليوم تعضيدَ المالكية في المغرب بقراءةٍ فلسفية جديدة لنصوصها؟

الميدان الأخلاقي، ماذا فعل فيه فلاسفة الإسلام؟ لا تزال المشكلة الآن في الإسلام منحصرة في ربط الضمير الأخلاقي بالإيمان. مازلنا إلى اليوم لم نَفْصِل بين الواجب الأخلاقي مثلا وبين الفعل الإيماني، رغم أن القدماء كانوا قد مَهدوا لهذا الفصل. هناك مجال آخر للضمير وللمسؤولية الأخلاقية يجب أن يُبحَث. لماذا يجرؤ بعض الناس اليوم على ذبح الأطفال بحُجج دينية؟ هناك التباس بين الضمير الأخلاقي، وبين المعيار الديني في السلوك. إن الفلاسفة لم يَهتموا بالبحث في الفكر السياسي، ولو أنه من ضمن علومهم. لم يَكتب أحد إلى اليوم في هذا العِلم، ولا زلنا لحد الآن ننظر للسياسة على أنها إيديولوجيا. إننا نفتقر اليوم إلى الفلسفة الدستورية، أعني إلى تأمل أو إلى مراجعة معيَّنة للأنظمة.

 

& الصـورة: يلاحَظ في السنوات الأخيرة أن هناك شغفا متزايدا لاستلهام فلسفات ما بعد الحداثة بمختلف صيغها ونماذجها، بُغية إخصاب التراث الفلسفي العربي وجعله يَستشرف آفاقا معرفية جديدة ومغايرة. وفي مقابل ذلك، يلاحِظ المتتبع لأعمالكم وكأنكم تحافظون على مسافة نظرية حيال هذا التوجه العام…

ـ فهل يتعلق الأمر بتحفظ مبدئي من جانبكم تجاه هذا الموقف؟ أم أن الأمر بالنسبة لكم لا يحظى بالأولوية، قياسا إلى تركيزكم على المنحى المونوغرافي العلمي الدقيق؟ ثم إلى أيّ حدّ يمكن أن تسعفنا فلسفات ما بعد الحداثة في إعادة قراءة تراثنا الفلسفي، والحال أننا ما زلنا لم نستوعب بعدُ أهم مكتسبات فلسفات الحداثة؟

 

د. ألوزاد: تذكِّرُني مسألة ما بعد الحداثة بطريقة تعامل المشتغلين بالفلسفة عموما مع الإنتاجات الغربية، وهي طريقة لم تبلغ بعد المنطقة التي يمكن أن نسميها بالمنطقة الإيجابية، ولم تبلغ بعد المدى الذي تصبح فيه في موقع الحوار الإيجابي. أمامنا أولا تحفُّظ تجاه الغرب، بحيث ما تزال المنطقة تعاني من التحفظ، إنْ لم نقل في بعض الحالات من العداء. لم يصل الغرب ولا المجتمعات الإسلامية بعدُ إلى أرضية مشترَكة على جميع الأصعدة الاقتصادية والسياسية وغيرها. وكل ما بُذِل لحد الآن ما يزال في المهد، ولم يتحقق شيء كبير كما كان متوقَّعا.

الأمر الثاني هو التأخر الذي يبدو كما لو كان مزمنا في المنطقة الإسلامية (أتعمد تسميتها بالإسلامية لتشمل المناطق الممتدة إلى تخوم تركيا وغيرها). نجد أنفسنا أمام تخلف مزمِن لم يَعُدْ مجرَّد تخلف عَرَضي. فيما مضى كان هناك تخلف يمكن أن نسميه تخلفا مؤقتا في الزمن الذي كان يتم فيه الحديث عن “دول نامية” أو “قابلة للنمو”، لكن المنطقة تعاني اليوم من تخلف مزمِن، ولا تفتأ المسافة تتزايد، إنْ لم تظل ثابتة لا تَعرف أيَّ تقارب في الأفق المنظور. هناك تخلُّف على جميع المستويات. ماذا أنتج هذا التخلف؟ أنتج ظاهرة ثقافية غير طبيعية تتمثل في أن ما ينتَج في الغرب ثقافيا لا يُستوعَب في المجتمعات الإسلامية، وحتى إن استوعِب فبعد أن يصبح ماضيا في تلك المجتمعات. إذن نحن نلهث دون أمل في أن نَلحق يوما ما بالمعاصَرة لِمَا يَجري في الغرب. والمغرب ربما من بين إيجابياته أنه من الذين يَطمحون دوما إلى الحصول على آخِر ما أنتجه الغرب، رغم التأخر الموجود الذي نتحدث عنه دائما، ولكن هناك سعي دائب. بينما في مجتمعات أخرى نعلم أن هذا التأخر ليس مستوعَبا وليس هناك إدراك لخطورته. في هذا السياق تأتي ظواهر فلسفية معيَّنة: الماركسية والوجودية وغيرها من الحركات الفكرية، كيف ظهرت في الغرب؟ كيف انتقلت إلينا؟ سنجد أنها ارتبطت بهذه العناصر التي ذكرنا. فلسفات ما بعد الحداثة بدورها تندرج في هذا الاتجاه.

بيد أن لي ملاحظتين في هذا الباب: الملاحظة الأولى هي أن هذه التجديدات التي عَرَفها الغرب لا يجب أبدا أن تَحجُب عنا أن الإنتاج الغربي متنوع، فنحن نتوهم أن الجديد يَنفي القديم أوتوماتيكيا أو تلقائيا، وهذا خطأ في فَهْم الغرب. فالكثيرون يَتصورون مثلا أنه لا وجود في الثقافة الغربية المعاصرة للاتجاهات الدينية، مادام الغرب قد تجاوزها. هذا كلام لا معنى له، إذ في الفلسفة الغربية تجد تنوعا؛ هناك اجتهادات جديدة، وإضافات جديدة، ولكن هناك باستمرار تيارات متنوعة جدا: هناك تيارات كلاسيكية، كالأرسطيين والوسطويين وغيرهم.. إذن فتعامُلنا مع الفلسفة الغربية يجب أن يكون في نطاق انفتاح حقيقي، ما دمنا في وضعية تسمح لنا باستيعاب كل شيء والاستفادة من كل شيء. علينا أن نمحِّص ما هو الأكثر إيجابية بالنسبة للنشاط الفلسفي اليوم. ثم علينا أن لا ننسى الأساسي الذي أدى إلى هذه النتائج في الغرب وهَيَّئَهَا ومَهَّد لها. فالبقاء فقط في النتائج هو كالبقاء فقط على مستوى الاستهلاك دون الطموح إلى عملية الإنتاج نفسِها. إذا كنا نطمح إلى الإنتاج، فإن علينا أن نتساءل عن الوسائل التي هَيَّئَها الغرب، والتي استطاع بفضلها خَلقَ هذه الإنتاجات الجديدة. هذه الوسائل ليس فيها التغيُّر الكبير الذي نتوهم. فلو تأملنا مثلا تعليم اللغات، سنجد أن مدرسة شارتر الفرنسية بباريس ما تزال قائمة منذ نابليون إلى الآن، وهي من المدارس المهمة والجيدة والرفيعة جدا في مجال تدريس اللغات القديمة. ومعظم الأعلام الذين تخرَّجوا منها يضطلعون بعمليات ترجمة وتحقيق النصوص. هذه بعض الوسائل التي تساعد على فهم التراث وتَمَثلِه وإنتاج تراث أو عمل وازن ذي قيمة. هل نملك مثل هذه الوسيلة؟

ملحوظة: لمتابعة قراءة الجزء الثالث والأخير من هذا الحوار أنقر على الرابط أسفله:

رابط الجزء الثالث والأخير من هذا الحوار مع د. محمد ألوزاد رحمه الله

 

عزيز بوستا

أستـــاذ بــاحث بالمركز الجــهوي لمــهن التــربية والتــكوين بطــــنجة حـــاصل علــى: دكــــتوراه فـــي عـــلوم الـــتربية، ودبـــلوم الــــــدراسات العــــليا فـــي الفلســـفة. شارك في أنشطة متنوعة (علمية وثقافية عامة) في إطار تظاهرات وندوات وموائد مستديرة، من تنظيم جمعيات ومنظمات وطنية ودولية، ولقاءات إذاعية وإعلامية مختلفة... ساهم فــي التــكوين الأســاس والمســـتمر للمـــدرسين وأطـــر الإدارة التــربوية، بكــافة أســلاك التعــليم المــدرسي، فــي مواضيع ذات علاقة بالتربية والتكوين. له مقالات متعددة في الفلسفة وعلوم التربية، بمجلات وجرائد ومواقع إلكترونية مغربية وعربية. (يعاد نشر بعضها بهذا الموقع).

اخر المقالات
‎اضف رد
الرمز الامني اضغط علي الصورة لتحديث الرمز الامني .